(1/171)

وعبادة بن الحسحاس دفن هؤلاء الثلاثة: النعمان والمجذر وعبادة في قبر واحد.
ومن بني سلمة:
عبد الله بن عمرو بن حرام، والد جابر بن عبد الله، اصطبح الخمر في صبيحة ذلك اليوم، ثم قتل من آخره شهيداً، وذلبك قبل أن تحرم الخمر.
وعمر بن الجموح بن زيد بن حرام دفنا في قبر واحد، وكانا صديقين جداً.
وابنه خلاد بن عمرو بن الجموح.
وأبو أيمن، مولى عمرو بن الجموح.
ومن بني سواد بن غنم:
سليم بن عمرو بن حديدة.
ومولاه عنترة.
وسهل بن قيس بن أبي كعب.
ومن بني زريق بن عامر:
ذكوان بن عبد قيس.
وعبيد بن المعلى بن لوذان فجميعهم خمسة وستون رجلاً.
وقد ذكر أيضاً في شهداء أحد من الأوس:
مالك بن نميلة، حليف بني معاوية بن مالك.
ومن بني خطمة، واسم خطمة: عبد الله بن جشم بن مالك بن الأوس: الحارث بن عدي بن خرشة بن أمية بن عامر بن خطمة.








ومن الخزرج، ثم من بني سواد بن مالك:
(1/172)

مالك بن إياس.
ومن بني عمرو بن مالك بن النجار:
إياس بن عدي.
ومن بني سالم بن عوف:
عمرو بن إياس.
فتموا سبعين، رضوان الله عليهم؛ ولم يصل رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد حين دفنهم.
وقتل من كفار قريش يومئذ اثنا وعشرون رجلاً:
فيهم من بني عبد الدار:
طلحة، وأبو سعيد (1) ، وعثمان، بنو أبي طلحة واسم أبي طلحة: عبد الله ابن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار.
ومسافع، وجلاس، والحارث، وكلاب، بنو طلحة بن أبي طلحة المذكور.
وأرطاة بن عبد شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار.
وابن عمه: أبو يزيد [بن] (2) عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار.
وابن عمهما: القاسط بن شريح بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار.
وصؤاب مولى أبي طلحة.
ومن بني أسد بن عبد العزى:
عبد الله بن حميد بن زهير بن الحارث بن أسد، قتله علي.
ومن بني زهرة بن كلاب:
__________
(1) في الأصل: أبو سعد، وصححناه من الجمهرة: 118، وابن هشام 3: 134.
(2) ساقطة من الأصل.
(1/173)

أبو الحكم بن الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي، حليف لهم، قتله علي.
وسباع بن عبد العزى الخزاعي، حليف لهم.
ومن بني مخزوم:
هشام بن أبي أمية بن المغيرة، أخو أم سلمة أم المؤمنين.
والوليد بن العاصي بن هشام بن المغيرة.
وأبو أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة.
وخالد بن الأعلم، حليف لهم.
ومن بني جمح:
أبو عزة الشاعر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أسره يوم بدر، ثم من عليه وأطلقه بغير فداء، وأخذ عليه أن لا يعين عليه، فنقض العهد، فأسر يوم أحد، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب عنقه صبراً، وقال له: والله لا تمسح عارضيك بمكة وتقول: خدعت محمداً مرتين.
وأبي بن خلف رجلان.
ومن بني عامر بن لؤي:
عبيدة بن جابر.
وشيبة بن مالك بن المضرب رجلان.
(1/174)

غزوة حمراء الأسد (1)
وكانت وقعة أحد يوم السبت، النصف من شوال من السنة الثالثة من الهجرة، فلما كان من الغد يوم الأحد لست عشرة (2) ليلة خلت لشوال، أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطلب للعدو، وعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يخرج معه أحد إلا من حضر المعركة يوم أحد، فاستأذنه جابر بن عبد الله أن يفسح له في الخروج معه، ففسح له في ذلك.
فخرج المسلمون على ما بهم من الجهد والجراح، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرهباً للعدو ومتجلداً، فبلغ حمراء الأسد، وهي على ثمانية أميال من المدينة، فأقام بها الاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة.
ومر برسول الله صلى الله عليه وسلم معبد بن أبي معبد الخزاعي، ثم طواه (3) ، ولقي أبا سفيان وكفار قريش بالروحاء، فأخبرهم بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم، ففت ذلك في أعضاد قريش، وقد كانوا أرادوا الرجوع إلى المدينة، فكسرهم خروجه عليه السلام، فتمادوا إلى مكة، فظفر رسول الله صلى الله عليه وسلم في خروجه بمعاوية بن المغيرة بن العاص بن أمية، فأمر بضرب عنقه صبراً، وهو والد عائشة أم عبد الملك بن مروان.
__________
(1) انظر خبر هذه الغزوة في: الواقدي: 325، وابن هشام 3: 107، وابن سعد 2 / 1: 34، والطبري 3: 29، وابن سيد الناس 2: 37، وابن كثير 4: 48، والإمتاع: 166، والمواهب 1: 128، وتاريخ الخميس 1: 447.
(2) في الأصل: يوم أحد لستة عشر ليلة.
(3) طواه: جازه. يقال: مر بنا فطوانا، أي جازنا.
(1/175)

بعث الرجيع (1)
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في نصف صفر، في آخر تمام السنة الثالثة من الهجرة نفر من عضل والقارة، وهم بنو الهون بن خزيمة بن مدركة، أخي بني أسد بن خزيمة. فذكروا له صلى الله عليه وسلم أن فيهم إسلاماً، ورغبوا أن يبعث نفراً من المسلمين يفقهونهم في الدين، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم ستة رجال من أصحابه (2) : مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وخالد بن البكير الليثي، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أحد بني عمرو بن عوف بن الأوس، وخبيب بن عدي أحد بني جحجبي بن كلفة بن عمرو بن عوف، وزيد بن الدقنة أحد بني بياضة بن عامر، وعبد الله بن طارق حليف بني ظفر.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مرثد بن أبي مرثد (3) ، ونهضوا مع القوم، حتى إذا صاروا بالرجيع (4) ، ماء لهذيل بناحية الحجاز بالهدأة، غدروا بهم، واستصرخوا عليهم هذيلاً، فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا الرجال
__________
(1) انظر: الواقدي: 344، وابن هشام 3: 178، وابن سعد 2 / 1: 39، والطبري 3: 29، وابن سيد الناس 2: 40، وابن كثير 4: 62، والإمتاع: 174، والمواهب 1: 130، وتاريخ الخميس 1: 454، وصحيح البخاري 5: 103، والمسند: 7915 تحقيق أحمد محمد شاكر.
(2) في الجامع الصحيح للبخاري أنهم كانوا عشرة، وكذلك قال ابن سيد الناس. وفي الواقدي أنهم كانوا سبعة، والصحيح أنهم عشرة، سبعة منهم معلومة أسماؤهم في كتب الأحاديث والسير، وثلاثة لم يكونوا من مشاهير القوم، والسابع الذي لم يذكره ابن حزم هنا هو معتب بن عبيد.
(3) الصحيح: أنه أمر عليهم عاصم بن ثابت البخاري 5: 103).
(4) الرجيع: اسم ماء لهذيل، حكى البخاري أنه بين عسفان ومكة.
(1/176)

بأيديهم السيوف وقد غشوهم، فأخذ المسلمون سيوفهم لقاتلوهم، فأمنوهم، وخبروهم أنهم لا أرب لهم في قتلهم، وإنما يريدون أن يصيبوا بهم فداء من أهل مكة.
فأما مرثد وخالد بن البكير وعاصم بن ثابت فأبوا، وقالوا: والله لا قبلنا لمشرك عهداً أبداً. فقاتلوهم حتى قتلوا؛ وكان عاصم يكنى أبا سليمان، وكان قد قتل يوم أحد فتيين من بني عبد الدار، ابنين لسلافة ابنة سعد، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنها (1) أن تشرب الخمر في قحفة (2) ، فرأت بنو هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد ابن شهيد، فأرسل الله تعالى الدبر (3) فحمته، فقالت هذيل: إذا جاء الليل ذهب الدبر، فأرسل الله تعالى سيلاً لم يدر سببه، فحمله قبل أن يقطعوا رأسه، فلم يصلوا إليه، وكان قد نذر أن لا يمس مشركاً أبداً، فأبر الله تعالى قسمه بعد موته، رضوان الله عليه.
وأما زيد الدثنة، وخبيب بن عدي، وعبد الله بن طارق فأعطوا بأيديهم (4) فأسروا، وخرجوا بهم إلى مكة، فلما صاروا بمر الظهران انتزع عبد الله بن طارق يده من القران، ثم أخذ سيفه، واستأخر عنه القوم، ورموه بالحجارة حتى مات، رضوان الله عليه، فقبره بمر الظهران.
وحملوا خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة، فباعوهما بمكة، فصلب
__________
(1) هكذا في الأصل: ولعل صوابه: " ابنيها " .
(2) القحف، بكسر القاف: ما انفق من الجمجمة.
(3) الدبر: النحل والزنابير.
(4) أعطوا بأيديهم: انقادوا.
(1/177)

خبيب بالتنعيم، رضوان الله عليهم؛ وهو القائل إذ قرب ليصلب (1) :
ولست أبالي حين أقتل مسلماً ... على أي شق كان في الله مضجعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلوٍ ممزع وهو أول من سن الركعتين عند القتال.
وابتاع زيد بن الدثنة صفوان بن أمية، فقتله بأبيه، رضوان الله على زيد. وقال أبو سفيان لخبيب أو لزيد: يسرك أن محمد مكانك يضرب عنقه وأنك في أهلك فقال: والله ما يسرني أني في أهلي وأن محمداً في مكانه الذي هو في يصيبه شوكة تؤذيه.
بعث بئر معونة (2)
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بقية شوال، وذا القعدة، وذا الحجة، والمحرم، ثم بعث أصحاب بئر معونة في صفر، في آخر تمام السنة الثالثة من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد.
وكان سبب ذلك أن أبا براء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وهو ملاعب الأسنة، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فلم يسلم ولم يبعد، وقال: يا محمد، لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل
__________
(1) البيتان في البخاري 5: 104، وابن سيد الناس 2: 41 وغيرهما.
(2) انظر الخبر عن بئر معونة في الواقدي: 337، 378، وابن هشام 3: 193، وابن سعد 2 / 1: 36، والطبري 3: 33، وابن سيد الناس 2: 46، وابم كثير 4: 71، وزاد المعاد 2: 272، والإمتاع: 170 والمواهب 1: 133، وتاريخ الخميس 1: 451.
(1/178)

نجد فدعوهم إلى أمرك، لرجوت أن يستجيبوا لك. فقال صلى الله عليه وسلم: إني أخشى عليهم أهل نجد. فقال أبو براء: أنا جارهم.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو، أحد بني ساعدة، وهو الذي يلقب: المعنق ليموت، في أربعين رجلاً من المسلمين، وقد قيل في سبعين من خيار المسلمين، منهم: الحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان أخو أم سليم، وهو خال أنس بن مالك وعروة ابن أسماء بن الصلت السلمي، ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق، وغيرهم؛ فنهضوا فنزلوا بئر معونة (1) ، وهي بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، ثم بعثوا منها حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، عامر بن الطفيل. فلما أتاه لم ينظر في كتابه، ثم عدا عليه فقتله، ثم استنهض إلى قتال الباقين بني عامر، فأبوا أن يجيبوه، لأن أبا براء أجارهم، فاستغاث عليهم بني سليم، فنهضت معه عصية ورعل وذكوان، وهم قبائل من بني سليم، فأحاطوا بهم، فقاتلوا فقتلوا كلهم رضوان الله عليهم، إلا كعب بن زيد أخا بني دينار بن النجار، فإنه ترك في القتلى وفيه رمق، فارتث (2) من القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق رضوان الله عليه.
وكان عمرو بن أمية في سرح المسلمين، ومعه المنذر بن محمد بن عقبة
__________
(1) بئر معونة: ماء من مياه بني سليم، بين أرض بني عامر وأرض بني سليم، كلا البلدين منها قريب، وهي إلى حرة بني سليم أقرب.
(2) ارتث: رفع وبه جراح.
(1/179)

ابن أحيحة بن الجلاح (1) ، فنظر إلى الطير تحوم على العسكر، فنهضا ناحية اصحابها، فإذا الطير تحوم على القتلى، والخيل التي أصابتهم لم تزل بعد؛ فقال المنذر بن محمد لعمرو بن أمية: فما ترى فقال: أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر. فقال الأنصاري: ما كنت لأرغب بنفسي عن موطب قتل في المنذر بن عمرو. فقاتل حتى قتل، وأخذ عمرو بن أمية أسيراً، فلما أخبرهم أنه من مضر، جز ناصيته عامر بن الطفيل، وأطلقه عن رقبة كانت على أمه. وذلك لعشرين بقين من صفر، مع الرجيع في شهر واحد.
فرجع عمرو بن أمية، حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة، أقبل رجلان من بني كلاب، وقيل من بني سليم، حتى نزلا مع عمرو بن أمية في ظل كان فيه، وكان معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعلم به عمرو، فسألهما: من أنتما فانتسبا له، فأمهلهما حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما، وهو يرى أنه أصاب ثأراً من قتلة أصحابه.
فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره بذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد قتلت قتيلين لأدينهما. وهذا سبب غزوة بني النضير.
__________
(1) في الأصل: أحيحة بن عمرو بن الجلاح.
(1/180)

غزوة بني النظير (1)
ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه إلى بني النضير، مستعيناً بهم في دية ذينك القتيلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية، فلما كملهم قالوا: نعم. فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر وعمر وعلي ونفر من أصحابه إلى جدار من جدرهم. فاجتمع بنو النضير، وقالوا: من رجل يصعد على ظهر البيت، فيلقي على محمد صخرة، فيقتله، فيريحنا منه فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب؛ فأوحى الله تعالى بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام لوم يشعر بذلك أحداً من أصحابه ممن معه، فلما استلبثه (2) أصحابه رضي الله عنهم قاموا فرجعوا إلى المدينة، وأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرهم بما أوحى الله تعالى إليه مما أرادته اليهود، وأمر أصحابه بالتهيؤ لحربهم، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم. ونهض إلى بني النضير في أول السنة الرابعة من الهجرة، فحاصرهم ست ليال، وحينئذ نزل تحريم الخمر (3) . فتحصنوا منه في الحصون، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخل وإحراقها، ودس عبد الله بن أبي ابن سلول ومن معه من المنافقين إلى بني النضير: إنا معكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم
__________
(1) انظر خبر بني النضير في: الواقدي: 353، وابن هشام 3: 199، وابن سعد 2 / 1: 40، والطبري 3: 36، وأنساب الأشراف 1: 163، وفتوح البلدان: 23، وابن سيد الناس 2: 48، وابن كثير 4: 74، وزاد المعاد 2: 185، والإمتاع: 178، والمواهب 1: 135، وتاريخ الخميس 1: 460، وصحيح البخاري 5: 88.
(2) في الأصل: " استقبله " ولا معنى له هنا. واستلبثه: استبطأه.
(3) انظر الإمتاع: 180 حيث ينقل عن ابن حزم.
(1/181)

خرجنا معكم، فاغتروا بذلك. فلما جاءت الحقيقة خذلوهم وأسلموهم، فسألوا رسول اله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا لسلاح. فاحتملوا بذلك إلى خيبر، ومنهم من صار إلى الشام، وكان ممن سار معهم إلى خيبر أكابرهم: حيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق؛ فدانت لهم خيبر. فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير بين المهاجرين الأولين خاصة، إلا أنه أعطي منها أبا دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، وكانا فقيرين.
ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان: يامين بن عمير بن كعب (1) بن عمرو بن جحاش، وأبو سعد بن وهب أسلما، فأحرزا أموالهما، وذكر أن يامين بن عمير جعل جعلا لمن قتل ابن عمه عمرو بن جحاش، لما هم به في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي قصة بني النضير نزلت سورة الحشر.
غزوة ذات الرقاع (2)
ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بني النضير بالمدينة شهر ربيع الآخر، وبعض جمادى الأولى، في صدر السنة الرابعة بعد الهجرة. ثم غزا نجداً، يريد بني محارب وبني ثعلبة بن سعد بن غطفان، واستعمل على
__________
(1) في تصحيحات الخشني 1: 286 أنه أبو كعب.
(2) انظر ابن هشام 3: 213، وابن سعد 2 / 1: 43، والطبري 3: 39، وأنساب الأشراف 1: 163، وابن سيد الناس 2: 52، وابن كثير 4: 83، وزاد المعاد 2: 274، والإمتاع: 188، والمواهب 1: 137، وتاريخ الخميس 1: 463، والبخاري 5: 113.
(1/182)

المدينة أبا ذر الغفاري، أو عثمان بن عفان، ونهض حتى نزل نخلا (1) .
وإنما سميت هذه الغزوة ذات الرقاع لأن أقدامهم رضي الله عنهم نقبت (2) ، وكانوا يلفون عليها الخرق، فلذلك سميت ذات الرقاع.
فلقي صلى الله عليه وسلم بنخل جمعاً من غطفان، فتوافقوا، إلا أنه لم يكن حرب، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ صلاة الخوف.
وفي انصرافهم من تلك الغزوة أبطأ جمل جابر، فنخسه عليه السلام، فانطلق متقدماً للركاب، وابتاعه منه عليه السلام، ثم رده عليه ووهبه الثمن وزيادة قيراط، فلم يزل عند جابر متبركاً به، حتى أخذه أهل الشام في جملة ما انتهبوه بالمدينة يوم الحرة.
وفي هذه الغزوة أيضاً أتى رجل من بني محارب بن خصفة، اسمه غورث ابن الحارث، فأخذ سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهزه، وقال: يا محمد من يمنعك مني قال: الله. فرد غورث السيف مكانه، فنزل في ذلك: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم}.
وفي هذه الغزوة رمى رجل من المشركين رجلاً من الأنصار كان ربيئة (3) لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجرحه وهو يقرأ سورة من القرآن، فتمادى في القراءة ولم يقطعها لما أصابه.
__________
(1) نخل: من منازل بني ثعلبة بنجد، على يمين من المدينة، بواد يقال له: شدخ (انظر السمهودي 2: 381). وقال ابن سعد في التعريف بذات الرقاع: هو جبل فيه بقع: حمرة وسواد وبياض، قريب من النخيل، بين السعد والشقرة (ابن سعد 2 / 1: 43).
(2) نقبت الأقدام: رقت جلودها وتنفطت من المشي.
(3) الربيئة: العين والطليعة الذي ينظر للقوم لئلا يدهمهم عدو، ولا يكون إلا على جبل أو شرف ينظر فيه.
(1/183)

غزوة بدر الثالثة (1)
وكان أبو سفيان يوم أحد نادى: موعدنا وإياكم بدر في عامنا المستقبل. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه أن يجيبه بنعم؛ فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من ذات الرقاع (2) بالمدينة، بقية جمادى الأولى، وجمادى الآخرة، ورجب، ثم خرج في شعبان من السنة الرابعة، للميعاد المذكور. فاستعمل على المدينة [عبد الله بن] (3) عبد الله بن أبي ابن سلول، ونزل في بدر، فأقام هنالك ثمان ليال. وخرج أبو سفيان في أهل مكة، حتى نزل مجنة (4) من ناحية الظهران، وقيل: بلغ عسفان، ثم بدا لهم في الرجوع، واعتذر بأن العام عام جدب.
غزوة دومة الجندل (5)
وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأقام بها إلى أن انسلخ ذو الحجة من السنة الرابعة من الهجرة، ثم غزا عليه السلام إلى
__________
(1) تسمى هذه الغزوة أيضاً بدراً الصغرى أو بدر الموعد. انظر خبرها في ابن هشام 3: 220، وابن سعد 2 / 42، والطبري 3: 41، وأنساب الأشراف 1: 163، وابن سيد الناس 2: 53، وابن كثير 4: 87، والإمتاع: 183، والمواهب 1: 139، وتاريخ الخميس 1: 456.
(2) انظر الإمتاع: 186 حيث يورد رأي ابن حزم في أن بدراً الآخرة بعد ذات الرقاع...
(3) ساقطة من الأصل. وفي الإمتاع: 184، والمواهب 1: 140، وتاريخ الخميس 1: 465 أنه استعمل عليها عبد الله بن رواحة.
(4) في الأصل: تحته.
(5) انظر خبر هذه الغزوة في: ابن هشام 3: 224، وابن سعد 2 / 1: 44، والطبري 3: 43، وأنساب الأشراف 1: 164، وابن سيد الناس 2: 54، وابن كثير 4: 92، وزاد المعاد 2: 278، والإمتاع: 193، والمواهب 1: 140، وتاريخ الخميس: 1: 469.
(1/184)

دومة الجندل في شهر ربيع الأول، ابتداء العام الخامس من الهجرة، واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة. وانصرف عليه السلام من طريقه قبل أن يبلغ دومة الجندل، ولم يلق حرباً.
غزوة الخندق (1)
ثم كانت غزوة الخندق في شوال من السنة الخامسة من الهجرة، هكذا قال أصحاب المغازي (2) ؛ والثابت أنها في الرابعة بلا شك، لحديث ابن عمر: " عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني، ثم عرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني " . فصح أنه لم يكن بينهما إلا سنة واحدة فقط، وأنها قبل دومة الجندل بلا شك (3) .
وسببها: أن نفراً من اليهود، منهم سلام بن أبي الحقيق، وكنانة
__________
(1) انظر: الواقدي: 362، وابن هشام 3: 226، وابن سعد 2 / 1: 47 والطبري 3: 43، وأنساب الأشراف 1: 165، وابن سيد الناس 2: 54، وابن كثير 4: 92، وزاد المعاد 2: 288، والإمتاع: 215، والمواهب 1: 142، وتاريخ الخميس 1: 479، والبخاري 5: 107.
(2) يستثنى منهم موسى بن عقبة، فقد قال إنها كانت سنة أربع، وتابعه على ذلك الإمام مالك، وارتضاه البخاري؛ وبه حزم في هذا الكتاب.
(3) نقل ابن كثير في كتاب الفصول: 56 قول ابن حزم هذا واحتجاجه بحديث ابن عمر، وعلق عليه بقوله: هذا الحديث مخرج في الصحيحين وليس يدل على ما ادعاه [ابن حزم] لأن مناط إجازة الحرب كان عنده صلى الله عليه وسلم خمس عشرة سنة، فكان لا يجيز من لم يبلغها، ومن بلغها أجازه. فلما كان ابن عمر يوم أحد ممن لم يبلغها لم يجزه، ولما كان قد بلغها يوم الخندق أجازه؛ وليس ينفي هذا أن يكون قد زاد عليها بسنة أو سنتين أو ثلاث أو أكثر من ذلك، فكأنه قال: وعرضت عليه يوم الخندق وأنا بالغ أو من أبناء الحرب. وقد قيل إنه كان يوم أحد في أول الرابعة عشرة من عمره وفي يوم الخندق في آخر الخامسة؛ [فيكون بينهما ما يزيد على سنة، وارتضى هذا الرأي بعض الذين لم يأخذوا بقول موسى بن عقبة].
(1/185)

ابن الربيع بن أبي الحقيق، وسلام بن مشكم النضريون، وهوذة بن قيس، وأبو عمار الوائليان (1) . وهم حزبوا الأحزاب: خرجوا فأتوا مكة داعين إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وواعدين من أنفسهم بعون من انتدب إلى ذلك، فأجابهم أهل مكة إلى ذلك؛ ثم خرج اليهود المذكورون إلى غطفان، فدعوهم إلى مثل ذلك، فأجابوهم.
فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري على بني فزارة، والحارث ابن عوف بن أبي حارثة المري في بني مرة، ومسعر بن رخيلة (2) بن نويرة ابن طريف بن سحمة بن عبد الله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان فيمن تابعه من أشجع. فلما سمع [بهم] رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بحفر الخندق على المدينة، فعمل فيه صلى الله عليه وسلم بيده، فتم الخندق؛ وكانت فيه المعجزات، منها أن كدية صخر عرضت في الخندق كلت المعاول عنها (3) ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا ونضح عليها الماء، فانهالت كالكثيب؛ وأطعم النفر العظيم من تمر يسير، إلى غير ذلك.
وقبلت الأحزاب حتى نزلت بمجتمع السيول من رومة (4) ، بين الجرف
__________
(1) في الأصل: وهوذة بن ميش وأبو عامر البلويان والتصحيح عن ابن هشام والطبري وفي الإمتاع: 216 وتاريخ الخميس 1: 480 أن الثاني المذكور هنا هو أبو عامر الراهب.
(2) في الأصل: رجيلة؛ وانظر نسبه في الجمهرة: 238 ففيه اختلاف بعيد عما هنا. وقد أثبت المقريزي هذا الخلاف في الإمتاع: 218 - 219.
(3) الكدية: الصفاة العظيمة الشديدة.
(4) في الأصل: دومة، وهي كذلك في الطبري 3: 46. والصواب ما أثبتناه، لأن الدومة بالعالية قرب بني قريظة، أما رومة، فإن العرصة الكبرى التي حولها تمتد حتى تختلط بالجرف، وكلاهما في آخر العقيق (راجع السمهودي، 2: 122، 280، 318).
(1/186)

وزغابة (1) ، في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من كنانة وغيرهم. ونزلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد، حتى نزلوا بذنب نقمى (2) ، إلى جانب [أحد] (3) .
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة آلاف من المسلمين (4) ، وقد قيل: في تسعمائة فقط، وهو الصحيح الذي لا شك فيه، والأول وهم؛ حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع، فنزلوا هنالك والخندق بينهم. واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وأمر بالنساء والذراري فجعلوا في الآطام.
وكان كعب بن أسد رئيس بني قريظة موادعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه حيي بن أخطب، فلم يزل به، وكعب يأبى عليه، حتى أثر فيه، ونقض كعب عهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومال مع حيي.
__________
(1) الجرف، بالضم ثم السكون في ياقوت، وضبطه البكري بضم أوله وثانيه - : على ثلاثة أميال من المدينة من جهة الشام.
وزغابة، على وزن صحابة: مجتمع السيول آخر العقيق، ضبطه السمهودي بإعجام الغين، وكذلك قال السهيل. أما البكري فقال: هو زغابة، بضم الزاي والعين المهملة. وقال الطبري: الرواي الجيدة " بين الجرف والغابة، لأن زغابة لا تعرف " ، ورد عليه ياقوت. (انظر معجم البلدان، والسهيل 2: 189، والسمهودي: 318، 281، والطبري 3: 46).
(2) في الأصل: يعمر، وهو تصحيف.
(3) زيادة من ابن هشام والطبري.
(4) ذكر ابن إسحاق وابن سعد هذا العدد، ونقله كذلك ابن سيد الناس وصاحب المواهب وابن كثير، وذكره الديار بكري وزاد قوله: وقيل كان المسلمون ألفاً. وقال ابن كثير في الفصول: 58 " فتحصن بالخندق وهو في ثلاثة آلاف على الصحيح، وزعم ابن إسحاق أنه كان في سبعمائة وهذا غلط " . والذي ذكره ابن إسحاق أنهم كانوا في ثلاثة آلاف، ولم يرو غيره، ولم يشر أحد إلى أن المسلمين كانوا تسعمائة، حسب الرواية الثانية التي ارتضاها ابن حزم ورفض ما عداها.
(1/187)

وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بلغه الأمر سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وهما سيد الأوس والخزرج، وخوات بن جبير أخا بني عمرو بن عوف، وعبد الله بن رواحة أخا بني الحارث بن الخزرج، ليعرفوا الأمر، فلما بلغوا بني قريظة وجدوهم مكاشفين بالغدر، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشاتمهم سعد بن معاذ، وانصرفوا.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرهم إن وجدوا غدر بني قريظة حقاً أن يعرضوا له الخبر ولا يصرحوا، فأتوا فقالوا: عضل والقارة؛ تذكيراً بغدر القارة بأصحاب الرجيع. فعظم الأمر، وأحيط بالمسلمين من كل جهة؛ واستأذن بعض بني حارثة فقالوا: يا رسول الله، إن بيوتنا عورة وخارجة عن المدينة، فأذن لنا نرجع إلى ديارنا. وهم أيضاً بالفشل بنو سلمة، ثم ثبت الله كلتا الطائفتين، ورحم القبيلتين؛ وبقى المشركون محاصرين للمسلمين نحو شهر، ولم يكن بينهم حرب، إلى أن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن بن حذيفة، والحارث بن عوف ابن أبي حارثة، رئيسي غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة، وجرت المراوضة في ذلك (1) ، ولم يتم الأمر، فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فقالا: يا رسول الله، أشيء أمرك الله به فلا بد لنا منه أم شيء تحبه فنصنعه أم شيء تصنعه لنا قال: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا أني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة. فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على
__________
(1) المراوضة: المساومة والمجاذبة، والمراوضة في البيع: أن تواصف الرجل بالسلعة ليست عندك، ويسمى بيع المواصفة.
(1/188)

الشرك بالله وعبادة الأوثان (1) ، وهم لا يطيقون (2) أن يأكلوا منها تمرة إلا قرى أو بيعاً، فحين أكرمنا الله تعالى بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك [و] به نعطيهم أموالنا والله لا نعطيهم إلا السيف. فصوب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيه، وتمادوا على حالهم.
ثم إن فوارس من قريش، منهم: عمرو بن عبد ود، أخو بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان، وضرار بن الخطاب أخو بني محارب بن فهر، خرجوا على خيلهم، فلما وقفوا على الخندق، قالوا: هذه مكيدة والله ما كانت تعرفها العرب. وقد قيل: إن سلمان أشار به. ثم تيمموا مكاناً ضيقاً من الخندق، فاقتحموه وجاوزوه، وجالت بهم خيلهم في السبخة بين الخندق وسلع، ودعوا إلى البراز، فبارز علي بن أبي طالب عمراً فقتله، وخرج الباقون من حيث دخلوا، فعادوا إلى قومهم. وكان شعار المسلمين يوم الخندق: " حم، لا ينصرون " .
وكانت عائشة أم المؤمنين مع أم سعد بن معاذ في حصن بني حارثة، وكان من أحصن حصن بالمدينة. وكان صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في فارع، أطم حسان بن ثابت، وكان حسان بن ثابت فيه مع النساء والصبيان.
ورمى في بعض تلك الأيام سعد بن معاذ بسهم قطع منه الأكحل،
__________
(1) في الأصل: " قد كنا نحن بهؤلاء... في عبادة الأوثان " والتصويب من ابن هشام.
(2) في ابن هشام: يطعمون.
(1/189)

ورماه حبان بن قيس ابن العرقة (1) ، وقد قيل: بل رماه أبو أسامة الجشمي (2) حليف بني مخزوم، وقيل: إن سعداً دعا إذ أصيب رضوان الله عليه فقال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلى أن أجاهدهم (3) من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه، اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم، فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة.
ولما اشتدت الحال وصعب الأمر أتى نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف ابن ثعلبة بن قنفذ بن هلال بن حلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة. فخرج نعيم فأتى بني قريظة، وكان ينادمهم في الجاهلية، فقال: يا بني قريظة، قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بيننا وبينكم. قالوا: صدقت. فقال: إن قريشاً وغطفان ليسوا كذلك ولا مثلكم، إن رأوا ما يسرهم وإلا لحقوا ببلادهم وتركوكم؛ ولا طاقة لكم بمحمد إن تركتم معه، فلا تقاتلوا معهم حتى تأخذوا منهم رهناً. فقالوا: لقد أشرت بالرأي، ثم نهض إلى قريش، فقال لأبي سفيان: قد عرفتم
__________
(1) العرقة، بكسر الراء وقد تفتح: هي أم حبان بن قيس، واسمها: قلابة، لقبت بالعرقة لطيب ريحها.
(2) في الأصل: أبو سلمة الخشني. والتصحيح من كتب السير.
(3) في الأصل: أجاهد.
(1/190)

صداقتي لكم، وبلغني أمر لزمني أن أعرفكموه، فاكتموا عني. قالوا: وما هو قال: اعلموا أن اليهود قد ندموا على ما فسخوا من عهد محمد، وقد أرسلوا إليه أن يأخذوا منكم رهناً يدفعونه إلى محمد، ويرجعون معه عليكم. فشكرته قريش على ذلك. ثم نهض حتى أتى غطفن فقال لهم مثل ما قال لقريش. فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة أربع أرسل أبو سفيان وغطفان إلى بني قريظة: إنا لسنا بدار مقام، فاغدوا للقتال. فأرسل اليهود إليهم: إن اليوم يوم سبت، ومع ذلك لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً. فردوا إليهم الرسول: والله لا نعطيكم فاخرجوا معنا. فقال بنو قريظة: صدق والله نعيم، فلما رجع الرسل إليهم بذلك قالوا: صدقنا والله نعيم. فأبوا من القتال معهم، وأرسل الله تعالى عليهم ريحاً عظيمة كفأت قدورهم وآنيتهم.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم حذيفة بن اليمان عيناً، فأتاه بخبر رحيلهم، ورحلت قريش وغطفان.
فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذهب الأحزاب، رجع عن الخندق إلى المدينة، ووضع المسلمون سلاحهم، فأتاه جبريل عن الله تعالى بالنهوض إلى بني قريظة (1) ، وذلك بعد صلاة الظهر من ذلك اليوم. ورأى قوم من المسلمين يومئذ جبريل عليه السلام في صورة دحية الكلبي على بغلة عليها قطيفة ديباج، ثم مر عليهم دحية بعد ذلك.
__________
(1) راجع خبر غزوة بني قريظة في: الواقدي: 371، وابن هشام 3: 244، وابن سعد 2 / 1: 53، والطبري 3: 52، وأنساب الأشراف 1: 167ن وابن سيد الناس 2: 68، وابن كثير 4: 116، وزاد المعاد 2: 187، والإمتاع: 241، والمواهب 1: 149، وتاريخ الخميس 1: 492، والبخاري 5: 111.
(1/191)

فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يصلي أحد العصر إلا في بني قريظة. ونهض المسلمون، فوافاهم وقت العصر في الطريق، فقال بعضص المسلمين: نصلي، ولم نؤمر بتأخيرها عن وقتها. وقال آخرون: لا نصليها إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصليها. فذكر أن بعضهم لم يصلوا العصر إلا ليلاً؛ فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعنف من الطائفين أحداً.
أما التعنيف فإنما يقع على العاصي المتعمد المعصية وهو يعلم أنها معصية؛ وأما من تأويل قصداً للخير، فهو وإن لم يصادف الحق غير معنف؛ وعلم الله تعالى أننا لو كنا هناك ما صلينا العصر في ذلك اليوم إلا في بني قريظة ولو بعد أيام (1) ؛ ولا فرق بين نقله صلى الله عليه وسلم صلاةً في ذلك اليوم إلى موضع بني قريظة، وبين نقله صلاة المغرب ليلة مزدلفة، وصلاة العصر من يوم عرفة على قوت الظهر، والطاعة في ذلك واجبة.
رجع الخبر: فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، ونازل رسول الله صلى الله عليه وسلم حصونهم، فأسمعوا المسلمين سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض له بأن لا يدنو منهم من أجل ما سمع. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً. فلما رأوا النبي صلى الله
__________
(1) نقل ابن كثير في البداية والنهاية 4: 118 قول ابن حزم هذا، ثم قال فقي التعليق عليه: " وهذا القول منه ماش على قاعدته الأصلية في الأخذ بالظاهر " . وقال السبيل 2: 195 " إن فهم هذا الأصل عسر على الظاهرية، لأنهم علقوا الأحكام بالنصوص، فاستحال عندهم أن يكون النص يأتي بحظر وإباحة معاً " .
(1/192)

عليه وسلم أمسكوا عما كانوا يقولون. فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على بئر من آبارهم يقال لها " بئر أنا " (1) وقيل " بئر أني " ، وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين [ليلة] (2) ، وعرض عليهم سيدهم كعب بن أسد ثلاث خصال، وهي: إما الأسلام؛ وإما قتل ذراريهم ونسائهم ثم القتال حتى يموتوا؛ وإما تبيت النبي صلى الله عليه وسلم ليلة السبت ظنا منه أن المسلمين قد أمنوا منهم. وأبوا كل ذلك، وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف، وكانوا حلفاء الأوس فأرسله صلى الله عليه وسلم إليهم، فلما أتاهم أجتمع إليه رجالهم والنساء والصبيان، فقالوا له: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد قال: نعم. أشار إليهم أنه الذبح. ثم ندم أبو لبابة من وقته وعلم أنه قد أذنب، فانطلق على وجهه ولم يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكتف نفسه إلى عمود من أعمدة المسجد، وقال: لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله عز وجل عليّ. وعاهد الله تعالى أن لا يدخل أرض بني قريظة أبداً، ولا يكون بأرض خان الله ورسوله فيها. وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لو أتاني لا ستغفرت له، فأما إذ فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقعه من مكانه حتى يتوب الله عليه. فنزلت التوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر أبي لبابة، فتولى رسول الله صلى الله عليه وسلم إطلاقه بيده، وقيل: إنه رضوان الله تعالى عليه أقام مرتبطاً بالجذع ست ليالٍ لا يحل إلا للصلاة. (3) .
__________
(1) بئر لنا: وزن هنا، أو حتى، أو بكسر النون المشددة.
(2) زيادة موضحة.
(3) في هامش النسخة: إلا لصلاة.
(1/193)

ونزل بنو قريظة على حكم سعد بن معاذ، إذ حكم فيهم بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأسلم ليلة نزولهم ثعلبة وأسيد ابنا سعية، وأسد بن عبيد، وهم نفر من هدل، من بني عم قريظة والنضير.
وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدي القرظي، وكان قد أبى من الدخول معهم في نقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنجا، ولم يعلم أين وقع.
فلما نزلت بنو قريظة على حكمه، صلى الله عليه وسلم، قالت الأوس: يا رسول الله، قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت، وهم حلفاء إخواننا الخزرج، وهؤلاء موالينا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم قالوا: بلى. قال: فذاك إلى سعد بن معاذ. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل سعد بن معاذ في خيمة في المسجد، تسكنها رفيدة الأسلمية وكانت امرأة صالحة تقوم على المرضى، وتداوي الجرحى ليعوده النبي صلى الله عليه وسلممن قريب. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد ليؤتي به فيكم في بني قريظة، فأتى به على حمار، وقد وطئ له بوسادة أدم، وأحاط به قومه، وهم يقولون: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك. فقال لهم سعد: قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم. فرجع بعض (1) من معه إلى ديار بني عبد الأشهل، فنعى إليهم رجال بني قريظة، فلما أظل سعد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال للمسلمين: قوموا إلى سيدكم. فقام المسلمون، فقالوا: يا أبا عمرو، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم. فقال: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن
__________
(1) في الأصل: " يعني " وهو تصحيف.
(1/194)

الحكم فيهم لما حكمت قالوا: نعم. قال: وعلى من هاهنا في الناحيثة التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. قال سعد: إني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبي الذراري والنساء. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة. (1) .
فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضع سوق المدينة اليوم، فخندق بها خنادق، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربت أعناقهم في تلك الخنادق. وقتل يومئذ حيي بن أحطب والد أم المؤمنين صفية، وكعب بن أسد، وكانوا من الستمائة إلى السبعمائة. وقتل من نسائهم امرأة واحدة، وهي بنابة (2) امرأة الحكم القرظي، التي طرحت الرحى على خلاد ابن سويد بن الصامت فقتلته، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل كل من أنبت، وترك من لم ينبت.
ووهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن الشماس ولد الزبير باطا، فاستحياهم، منهم عبد الرحمن بن الزبير، أسلم وله صحبة.
ووهب أيضاً صلى الله عليه وسلم رفاعة بن شمويل القرظي لأم المنذر سلمى (3) بنت قيس من بني النجار، وكانت قد صلت القبلتين، فأسلم رفاعة وله صحبة، وكان ممن لم ينبت (4) .
__________
(1) الأرقعة: جمع رقيع، وهو اسم للسماء، وقد جاءت مع العدد قبلها على التذكير، كأنه ذهب به إلى معنى السقف، وعنى سبع سموات، وكل سماء يقال لها: رقيع.
(2) في الأصل: " نثاثة " والتصحيح عن الطبري 3: 59 والإمتاع.
(3) في الأصل: " سلمة " وهو خطأ.
(4) في ابن هشام: وكان رجلاً قد بلغ.
(1/195)

واستحيا عطية القرظي، وله صحبة.
وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال بني قريظة، فأسهم للفارس صلاصة أسهم، وللراجل سهماً، وكان الخيل يومئذ في المسلمين ستةً وثلاثين فرساً.
ووقع للنبي صلى الله عليه وسلم من سبيهم ريحانة بنت عمرو بن خنافة، إحدى (1) نساء بني عمرو بن قريظة، فلم تزل في ملكه حتى مات صلى الله عليه وسلم.
فكان فتح بني قريظة في آخر ذي القعدة متصلاً بأول ذي الحجة في السنة الرابعة من الهجرة.
فلما تم أمر بني قريظة أجيبت دعوة الرجل الصالح: سعد بن معاذ رضول الله عليه، فانفجر عرقه فمات. وهو الذي اهتز عرش الرحمن لموته، يعني سرور حملة العرش بروحه، رضى الله عنه.
ذكر من استشهد يوم الخندق ويوم بني قريظة (2)
ذكرناهما معاً لأنهما متصلان، لم يكن بينهما فصل.
أصيب يوم الخندق: سعد بن معاذ من بني عبد الأشهل.
وأنس بن أوس بن عتيك بن عمرو.
وعبد الله (3) بن سهل كلاهما من بني عبد الأشهل.
__________
(1) في الأصل: " أحد " وهو خطأ.
(2) انظر ابن هشام 3: 262، والطبري 3: 58، وابن سيد الناس 2: 67، 76، والإمتاع: 241.
(3) في الأصل: " ابن عمرو بن عبد الله " وصل الاسمين معاً، فادخل " عبد الله " في نسب " أنس " ، وهو خطأ، إذ هما رجلان.
(1/196)

ومن بني سلمة بن الخزرج:
الطفيل بن النعمان.
وثعلبة بن عنمة (1) .
ومن بني دينار بن النجار بن الخزرج:
كعب بن زيد، أصابه سهم غرب فقتله (2) .
وأصيب من المشركين يوم الخندق:
[من بني عبد الدار]:
منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار، أصابه سهم مات منه بمكة.
وقيل: بل هو عثمان بن منبه بن السباق.
ومن بني مخزوم [بن يقظة]:
نوفل بن عبد الله بن المغيرة، اقتحم الخندق فقتل فيه.
[ومن بني عامر بن لؤي]:
عمرو بن عبدود.
وابنه (3) : حسل بن عمرو، من بني عامر بن لؤي.
واستشهد يوم بني قريظة من المسلمين:
خلاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو، من بني الحارث بنم الخزرج، طرحت عليه امرأة من بني قريظة رحى فقتلته (4) .
__________
(1) في الأصل: " غنمة " بالغين، وهو خطأ، وقد ضبط في الإصابة بقوله: بفتح المهملة والنون.
(2) سهم غرب: (بإضافة وغير إضافة): وهو الذي لا يعرف من أين جاء ولا من رمى به.
(3) في الأصل: " واسمه " ، وهو خطأ، وتصويبه من ابن هشام 3: 265.
(4) هي " بنانة " امرأة الحكم القرظي. انظر ص: 195 من هذا الكتاب.
(1/197)

ومات في الحصار: أبو سنان بن محصن بن حرثان الأسدي، أخو عكاشة بن محصن، فدفنه النبي صلى الله عليه وسلم في مقبرة بني قريظة التي يتدافن فيها المسلمون السكان بها إلى اليوم. ولم يصب غير هذين.
ولم يغز كفار قريش المسلمين بعد الخندق (1) ، والحمد لله رب العالمين.
بعث عبد الله بن أبي عتيك إلى قتل سلام
ابن أبي الحقيق، وهو أبو رافع (2)
ولما فتح الله تعالى في الكافر كعب بن الأشرف على يدي رجال من الأوس (3) ، رغبت الخزرج في مثل ذلك تزيداً في الأجر والغناء في الإسلام؛ فتذاكروا أن سلام بن أبي الحقيق من العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين على مثل حال كعب بن الأشرف، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله، فأذن لهم.
فخرج إليه خنمسة نفر من الخزرج، كلهم من بني سلمة: وهم: عبد الله ابن عتيك، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، ومسعود بن سنان، وخزاعي بن الأسود (4) ، حليف لهم من المسلمين.
وأمر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عتيك، ونهاهم عن
__________
(1) في الأصل: " المشركين " مكان " المسلمين " وهو خطأ ظاهر.
(2) انظر: ابن هشام 3: 286، وبن سعد 2 / 1: 66، والطبري 3: 6، وابن سيد الناس 2: 80، وابن كثير 4: 137، وزاد المعاد 2: 293، والإمتاع: 186، والمواهب 1: 159، وتاريخ الخميس 2: 12.
(3) الفتح: القضاء، ومنه قوله تعالى: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) أي أن تستقضوا فقد جاءكم القضاء. وفتح الله في الكافر: أي قضى فيه بأمره. وهو يتضمن معنى النصر أيضاً.
(4) يسمى أيضاً: الأسود بن الخزاعي؛ انظر: الإمتاع وتاريخ الخميس.
(1/198)

قتل النساء والصبيان. فنهضوا حتى أتوا خيبر ليلاً، وكان سلام ساكناً في دار مع جماعة، وهو في علية منها، فتسوروا الدار، ولم يدعوا باباً من أبوابها إلا استوثقوا منه في خارج، ثم أتوا العلية التي هو فيها، فاستأذنوا عليه، فقالت امرأته: من أنتم فقالوا: أناس من العرب. فقالت: هذاكم صاحبكم فادخلوا. فلما دخلوا أغلقوا الباب على أنفسهم، فأيقنت بالشر وصاحت فهموا بقتلها، ثم ذكروا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء، فأمسكوا عنها؛ ثم تعاوروه بأسيافهم وهو راقد على فراشه، أبيض في سواد الليل كأنه قبطية (1) ، ووضع عبد الله بن عتيك سيفه في بطنه حتى أنفذه، وعدو الله يقول: قطني قطني (2) . ثم نزلوا. وكان عبد الله بن عتيك سيء البصر، فوقع فوثئت رجله وثئا شديداً (3) ، فحمله أصحابه حتى أتوا منهراً من مناهرهم (4) ، فدخلوا فيه استتروا. وخرج أهل الآطام، وأوقدوا النيران في كل وجه، فلما يئسوا رجعوا، فقال المسلمون: كيف لنا و [أن] نعلم أن عدو الله قد مات فرجع أحدهم، ودخل بين الناس، ثم رجع إلى أصحابه فذكر لهم أنه وقف مع الجماعة، وأنه سمع امرأته تقول: والله لقد سمعت صوت ابن عتيك، ثم [أكذبت نفسي] (5) وقلت: أني ابن عتيك بهذه البلاد! ثم إنها نظرت في وجهه فقالت: فاظ وإله يهود. قال: فسررت،
__________
(1) الفقبطية: ثياب كتان بيض رقاق تعمل بصمر، وهي منسوبة إلى القبط على غير قياس.
(2) قط: ساكنة الطاء: معناها الاكتفاء؛ وقال بعضهم: قطني، كلمة موضوعة لا زيادة فيها، كحسبي.
(3) الوثء: شبه الفسخ في المفصل، أو هو أن يصيب العظم وصم لا يبلغ الكسر.
(4) المنهر: خرق في الحصن نافذ يجري منه الماء.
(5) في الأصل: " ثم قلت " ، وهي عبادة غامضة، وأثبتنا نص ابن هشام في سيرته 3: 288، فإن هذا من حديث المرأة.
(1/199)

وانصرف إلى أصحابه فأخبرهم بهلاكه، فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، وتداعوا في قتله، فقال صلى الله عليه وسلم: هاتوا سيوفكم. فأروه إياها، فقال عن سيف عبد الله بن أنيس: هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام.
غزوة بني لحيان (1)
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح قريظة بقية ذي الحجة، والمحرم، وصفراً، وربيعاً الأول، وربيعاً الآخر، وجمادي الأولى، ثم خرج وهو الشهر السادس من فتح بني قريظة، في الشهر الثالث من السنة السادسة من الهجرة، كذا قالوا، والصحيح: أنها السنة الخامسة قاصداً إلى بني لحيان، مطالباً بثأر عاصم بن ثابت وخبيب بن عديّ وأصحابهما، المقتولين بالرجيع، وذلك إثر رجوعه من دومة الجندل. فسلك صلى الله عليه وسلم على غراب، جبل بناحية على طريق الشام إلى مخيض (2) ، [ثم إلى] البتراء، ثم أخذ ذات اليسار فخرج على يين (3) ، ثم على صخيرات اليمام، ثم أخذ المحجة من طريق مكة، فأغذ السير حتى نزل غران (4) ،
__________
(1) انظر: الواقدي: 374، وابن هشام 3: 297، وابن سعد 2: 56، والطبري 3: 59، وأنساب الأشراف 1: 167، وابن سيد الناس 2: 83، وابن كثير 4: 81، والإمتاع: 257، والمواهب 1: 154، وتاريخ الخميس 2: 3.
(2) في الأصل: " محيض " وهو تصحيف، وصوابه من معجم البلدان (مخيض وغران). وفي أصل معجم ما استعجم " مخيض " أيضاً وأثبت ناشره الخطأ وهجر الصواب، وكذلك هي في ابن سعد 2 / 1: 57، وفي الطبعة الأوربية من السيرة: 718؛ وما جاء في طبعة الحلبي خطأ، اعتمد على ياقوت مادة (محيص) وهو موضع آخر، كما بين ذلمك السمهودي في الوفاء 2: 369.
(3) انظر التعليق رقم: 2 ص: 108 من هذا الكتاب.
(4) في الأصل: " عران " . وغران، بضم المعجمة والتخفيف: اسم وادي الأزرق خلف أمج. وقال المجد: علم مرتجل لواد ضخم وراء وادي ساية، وفيه كانت منازل بني لحيان. انظر السمهودي 2: 353.
(1/200)

واد بين أمج وعسفان، وهي منازل بني لحيان، إلى أرض يقال لها: ساية (1) ، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رءوس الجبال، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فاته غرتهم وتمنعوا في مائتي راكب من أصحابه، حتى نزل عسفان، وبعث عليه السلام رجلين من أصحابه فارسين، حتى بلغا كراع الغميم، ثم كرا، ورجع عليه السلام قافلا إلى المدينة.
غزوة ذي قرد (2)
وفي غزوة بني لحيان قالت الأنصار: إن المدينة خالية منا، وقد بعدنا عنها، ولا نأمن عدونا يخالفنا إليها، فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على كل نقب من أنقابها ملكا يحميها بأمر الله عز وجل. ثم قفل حينئذ، فما هو إلا أن نزل المسلمون المدينة وبقوا ليالي، وأغار عليهم عيينة ابن حصن في بني عبد الله بن غطفان، فاكتسحوا لقاحا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها رجل من بني غفار وامرأة، فقتلوا الغفارى، وحملوا المرأة واللقاح.
وكان أول من نذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي، وكان ناهضا إلى الغابة (3) ، فلما علا ثنية الوداع نظر إلى خيل الكفار، فصاح، فأنذر المسلمين، ثم نهض في آثارهم، فأبلى بلاء عظيما، ورماهم بالنبل حتى استنقذ
__________
(1) في الأصل: شاية. أما ساية: فإنها قرية أو واد من أعمال المدينة به أكثر من سبعين عينا؛ وأما شابة، بالشين معجمة والباء: فهو جبل في ديار هذيل، وليس بمقصود هنا.
(2) انظر: ابن هشام 3: 293، وابن سعد 2 / 1: 58، والطبري 3: 60، وأنساب الأشراف 1: 167، وابن سيد الناس 2: 84، وابن كثير 4: 105، والإمتاع: 257، والمواهب 1: 155، وتاريخ الخميس 2: 5، والبخاري 5: 130.
(3) الغابة: موضع قرب المدينة من ناحية الشام، فيه أموال لأهل المدينة.
(1/201)

ما كان بأيديهم. فلما وقعت الصيحة بالمدينة، فكان أول من أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفرسان المقداد بن الأسود، ثم عباد بن بشر بن وقش من بني عبد الأشهل، وسعد بن زيد من بني عبد الأشهل، وأسيد ابن ظهير أخو بني الحارثة، وعكاشة بن محصن الأسدي، ومحرز بن نضلة الأسدي الأخرم (1) ، وأبو قتادة الحارثة بن ربعي أخو بني سلمة، وأبو عياش بن زيد بن الصامت أخو بني زريق.
فلما اجتمعوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم سعد بن زيد، وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى فرس أبي عياش معاذ بن ماعص، أو عائذ بن ماعص، وكان أحكم للفروسية من أبي عياش. وأول من لحق بهم: فمحرز بن نضلة الأخرم، فقتل رضي الله عنه، وكان على فرس لمحمود بن مسلمة من بني عبد الأشهل، أخذه إذ كان صاحبه غائباً، فلما قتل رجع الفرس إلى آريه (2) في بن عبد الأشهل؛ وقيل: قتله عبد الرحمن بن عيينة بن حصن، فركب فرسه، ثم قتل سلمة عبد الرحمن، واسترجع الفرس.
وكان اسم فرس المقداد: سبحة، وقيل: بعزجة (3) ؛ وفرس معاذ بن وقش: لماع (4) ؛ وفرس عكاشة بن محصن: ذو اللمة؛ وفرس سعد ابن زيد: لاحق؛ وفرس أبي قتادة: جروة (5) ؛ وفرس أسيد بن
__________
(1) الأخرم: لقب عرف به محرز بن فضلة.
(2) الآرى: محبس الدابة.
(3) انظر كتاب أسماء خيل العرب لابن الأعرابي (ص: 53 - 54) حيث أورد أسماء الخيل في يوم السرح، وهو اليوم الذي أغار فيه عيينة بن حصن على المدينة.
(4) ذكر ابن الأعرابي: 54 أن لماعاً اسم فرس لعباد بن بشر، ولم يزد على ذلك.
(5) انظر المصدر السابق ص: 54، وذكر ابن هشام 3: 296 أنه يسمى أيضاً حزمة أو حزورة.
(1/202)

ظهير: مسنون؛ وفرس أبي عياش؛ جلوة، والفرس الذي ركب الأخرم: الجناح (1) .
وولى المشركون منهزمين، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ماء يقال له ذو القرد، ونحر ناقة من لقاحه المسترجعة، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ويوماً، ثم رجع إلى المدينة.
وأقبلت امرأة الغفاري على ناقة رسول الله صلة الله عليه وسلم، فلما أتت المدينة نذرت أن تنحرها، فأخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا نذر في معصية، ولا لأحد فيما لا يملك، وأخذ عليه السلام ناقته.
غزوة بني المصطلق (2)
ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعض جمادى الآخرة، ورجباً، وباقي العام، ثم غزا بني المصطلق من خزاعة في شعبان من السنة السادسة من الهجرة، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري، وقيل: بل نميله بن عبد الله الليثي، وأغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق، وعم غارون (3) ، على ماء يقال له: المريسيع (4) ، من ناحية
__________
(1) الجناح في ابن الكلبي: 39 فرس محمد أخي محمود بن مسلمة، وهو أيضاً فرس لعكاشة بن محصن شهد عليه يوم السرح (ابن الأعرابي: 53) أما فرس الأخرم فاسمه: السرحان (ص: 54).
(2) انظر خبر هذه الغزوة في الواقدي: 380، وابن هشام 3: 302، وابن سعد 2 / 1: 45، 156، والإمتاع: 195، والمراهب 1: 140، وتاريخ الخميس 1: 470.
(3) غارون: غافلون.
(4) المريسيع، بضم الميم الراء وسكون التحتانيتين بينهما مهملة مكسورة، آخره عين مهملة: ماء لبني خزاعة، بينه وبين ايفرع يومان، وبين الفرع والمدينة ثمانية برد.
(1/203)

قديد إلى الساحل، فقتل من قتل منهم، وسبى النساء والذرية. ومن ذلك السبى كانت جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد بني المصطلق، فوقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس، فكاتبها، فأدى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعتقها وتزوجها.
وأصيب في هذه الغزوة هشام يبن صبابة الليثي، من بنى ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة ابن الصامت خطأ، وهو يظنه من العدو.
وفي رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الغزوة قال عبد الله ابن أبي بن سلول: " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " ، وذلك لشرٍ وقع لبني جهجاه بن مسعود (1) الغفاري أجير عمر بن الخطاب، وبين سنان بن وبر الجهني، حليف بني عوف بن الخزرج، فنادى فنادى الغفاري؛ يا للمهاجرين. ونادى الجهني: يا للأنصار. وبلغ زيد بن أرقم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالة عبد الله بن أبي. فنزل في ذلك من عند الله تعالى سورة المنافقين.
وتبرأ عبد الله بن أبي من أبيه، وأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا رسول الله، أنت والله الأعز وهو الأذل، والله إن شئت لتخرجنه يا رسول الله. ووقف لأبيه قرب المدينة، فقال: والله لا تدخلها حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدخول فتدخل حينئذ.
__________
(1) في الأصل: " ذر " ؛ والتصحيح عن ابن هشام 3: 303، والاستيعاب؛ ويقال فيه أيضاً: ابن سعيد؛ انظر طبقات ابن سعد 2 / 1: 46 والاستيعاب.
(1/204)

وقال أيضاً عبد الله بن عبد الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، بلغني أنك تريد قتل أبي، وإني أخشى إن أمرت بذلك غيري لا تدعني نفسي أرى أبي قاتل أبي يمشي على الأرض، فأقتله به، فأدخل النار إذا قتلت مسلماً بكافر، وقد علمت الأنصار أبي من أبرها بأبيه، ولكن، يا رسول الله، إذا أردت قتله فمرني بذلك، فأنا والله أحمل إليك رأسه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً. وأخبره أنه لا يسيء إلى أبيه.
وقدم من مكة مقيس بن صبابة، مظهراً الإسلام، وطالباً دية أخيه هشام بن صبابة، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، فأخذها، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، وفر إلى مكة كافراً. وهو الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله يوم فتح مكة، في جملة من أمر بقتله.
وكان شعار المسلمين يوم بنى المصطلق: أمت أمت.
ولما علم المسلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج جويرية أعتقوا كل ما كان في أيديهم من بني المصطلق، كرامةً لمصاهرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد أطلق بسببها أهل بيتٍ من قومها.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني المصطلق بعد إسلامهم بأزيد من عامين: الوليد بن عقبة بن أبي معيط مصدقاً (1) ، فخرجوا ليتلقوه، ففزع، فرجع وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم هموا بقتله، فتكلم الناس في غزوهم، ثم أتى وافدهم منكراً لرجوع مصدقهم، قبل أن يلقاهم، معرفين أنهم إنما خرجوا متلقين له مكرمين لوروده،
__________
(1) المصدق: عامل الزكاة الذي يستوفيها من أربابها.
(1/205)

فنزلت في ذلك: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالةٍ فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} [سورة الحجرات، الآية: 6]
وفي مرجع الناس من غزوة بني المصطلق قال أهل الإفك ما قالوا، وأنزل الله تعالى في ذلك براءة عائشة أم المؤمنين رضوان الله عليها ما أنزل (1) .
وقد روينا من طرقٍ صحاح (2) : أن سعد بن معاذ كانت له في شيء من ذلك مراجعة مع سعد بن عبادة، وهذا عندنا وهم، لأن سعد بن معاذ مات إثر فتح قريظة، بلا شك، وفتح بني قريظة في آخر ذي القعدة من السنة الرابعة من الهجرة، وغزوة بني المصطلق في شعبان من السنة السادسة، بعد سنةٍ وثمانية أشهر من موت سعد، وكانت المقالة بين الرجلين المذكورين بعد الرجوع من غزوة بني المصطلق بأزيد من خمسين ليلة (3) .
وذكر ابن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد وغيره: أن المقاول لسعج بن عبادة إنما كان أسيد بن الحضير. وهذا هو الصحيح، والوهم لم يعر منه أحد من بني آدم، إلا من عصم الله تعالى (4) .
__________
(1) راجع إمتاع الأسماع: 215 حيث نقل نص ابن حزم هذا في الإشارة إلى حديث الإفك.
(2) رواه البخاري 5: 118 - 119.
(3) انظر تحرير الخلاف في تاريخ غزوة بني المصطلق في إمتاع الأسماع: 214 - 215، وفتح الباري 7: 332، وعمدة القاري 17: 201 وما بعدها.
(4) انظر الإشارة إلى رأي ابن حزم هذا في كتاب الفصول: 71.
(1/206)

غزوة الحديبية (1)
فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، بعد منصرفه من غزوة بني المصطلق، رمضان، وشوالاً، وخرج في السنة السادسة في ذي القعدة معتمراً، واستنفر الأعراب الذين حول المدينة، فأبطأ عنه أكثرهم، وخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن اتبعه من العرب، وساق الهدى، وأحرم بالعمرة من ذي الحليفة، ليعلم الناس أنه لم يخرج لحرب، وخرج في ألف رجل ونيف، المكثر يقول: ألف وخمسمائة لا تزيد أصلاً؛ والمقلل يقول: ألف وثلاثمائة؛ والمتوسط يقول: ألف وأربعمائة.
وقد قال بعضهم: كانوا سبعمائة، وهذا وهم شديد ألبتة، والصحيح بلا شك بين الألف والثلاثمائة إلى ألف وخمسمائة (2) .
فلما بلغ قريشاً ذلك خرج حمها (3) عازمين على صدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت، أو قتاله دون ذلك. وقدموا خالد بن الوليد في خيل إلى كراع الغمم. فورد الخبر بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعسفان، فسلك طريقاً خرج منه في ظهورهم، كان دليلهم فيه رجل من أسلم، وذلك ذات اليمين [بين] ظهري الحمض، في طريقٍ أخرجه على ثنيه المرار، مهبط الحديبية من أسفل مكة، فلما بلغ ذلك قريشاً
__________
(1) انظر: الوافدي: 383، وابن هشام: 3: 321، وابن سعد 2 / 1: 69، والطبري 3: 71، وأنساب الأشراف 1: 169، وابن سيد الناس 2: 113، وابن كثير 4: 164، وزاد المعاد 2: 301، والإمتاع: 274، وتاريخ الخميس 2: 16، والبخاري 5: 121.
(2) راجع ما نقله المقريزي عن سيرة ابن حزم في الإمتاع: 276، وانظر كذلك كتاب الفصول: 71.
(3) حم الشيء: معظمه، ومثله: الجم، باليجم وتشديد الميم، ونخشى أن يكون صوابها: خرج جمعها.
(1/207)

التي مع خالد، كرت إلى قريش، فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمكان الذي ذكرنا بالحديبية، بركت ناقته، فقال الناس: خلأت (1) . وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها. ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم هنالك، فقيل له: يا رسول الله، ليس بالوادي ماء. فأخرج سهماً من كنانته، فغرزه في جوفه، فجاش بالرواء (2) ، حتى كفى جميع أهل الجيش. وقيل: إن الذي نزل بالسهم في القليب ناجية بن جندب ابن عمير بن يعمر بن دارم بن عمرو بن واثلة بن سهم بن مازن بن سلامان بن أسلم بن أفصى بن أبي حارثة، وهو سائق بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وقيل: بل نزل به البراء بن عازب.
ثم جرت السفراء بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، وطال الخطب، إلى أن أتاه صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمرو، فقاضاه على أن ينصرف عامه ذلك، فإذا كان من قابلٍ أتى معتمراً، ودخل مكة وأصحابه بلا سلاح، حاشا السيوف في القرب فقط، فيقيم بها ثلاثاً ولا مزيد، على أن يكون بينهم صلح متصل عشرة أعوام، يتداخل فيها الناس ويأمن بعضهم بعضاً، وعلى أن من جاء من الكفار إلى المسلمين مسلماً من رجل أو امرأة رد إلى الكفار، ومن جاء من المسلمين إلى الكفار مرتدا لم يرد إلى المسلمين. فعظم ذلك على المسلمين، حتى
__________
(1) الخلاء في الإبل: بمنزلة الحران في الدواب، وقيل: إن الخلاء خاص بالنوق.
(2) الرواء، بفتح الراء والمد: الماء الكثير العذب.
(1/208)

كان لبعضهم فيه كلام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بما علمه ربه تعالى، وقد علم عليه السلام أن الله تعالى سيجعل للمسلمين فرجاً مضموناً من عند الله تعالى، وأنذر المسلمين بذلك، وعلم عليه السلام أن هذا الصلح قد جعله الله تعالى سبباً لظهور الإسلام. وأنس الناس بعد نفارهم، وكره سهيل بن عمرو أن يكتب صدر الصحيفة " محمد رسول الله " وأبى عليّ بن أبي طالب، وهو كاتب الصحيفة، أن يمحو بيده " رسول الله " صلى الله عليه وسلم (1) ، فمحا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الصفة بيده، وأمر الكاتب أن يكتب " محمد بن عبد الله " .
وأتى أبو جندل بن سهيل، يرسف في قيوده، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيه بعد أن أجاره مكرز بن حفص (2) ، فعظم ذلك على المسلمين، فأخبرهم عليه السلام أن الله سيجعل له فرجاً.
وكان قد أتى قوم من عند قريش، قيل: ما بين الأربعين إلى الثلاثين، فأرادوا الإيقاع بالمسلمين، فأخذوا أخذاً، فأطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم العتقاء الذين ينتمون إليهم العتقيون.
وكان عليه السلام قبل تمام هذا الصلح قد بعث عثمان بن عفان إلى مكة رسولا، وشاع أن المشركين قتلوه، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المبايعة على الموت، وأن لا يفروا عن القتال، وهي بيعة الرضوان، التي كانت تحت الشجرة، التي أنثنى الله تعالى على أهلها، وأخبر عليه السلام أنهم لا يدخلون النار.
__________
(1) لعل الصلاة على النبي هنا زيادة من الناسخين.
(2) في الأصل بعد كلمة " أجاره " بياض يتلوه " بن جابر " ؛ والتصويب من الإمتاع: 294.
(1/209)

وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيساره على يمينه، وقال: هذه عن عثمان. فلما تم الصلح المذكور أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحروا ويحلوا، ففعلوا بعد إباء كان منهم وتوقف أغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وفقهم الله تعالى ففعلوا، وقيل: إن الذي حلق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي.
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأتاه أبو بصير عتبة ابن أسيد بن جارية هارباً، وكان ممن حبس بمكة، وهو ثقفي حليف لبني زهرة، فبعث إليه الأزهر بن عبد عوف عم عبد الرحمن بن عوف، والأخنس بن شريق الثقفي، رجلاً من بني عامر بن لؤي ومولى لهم، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلمه إليهما، فاحتملاه، فلما صار بذي الحذيفة نزلوا، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: أرني هذا السيف. فلما صار بيده، ضرب به العامري فقتله، وفر المولى فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما وقع. وأظل أبو بصير، فقال: يا رسول الله وفت ذمتك، وأدى الله عنك، أسلمتني بيد القوم، وقد امتنعت بديني أن أفتتن فيه أو يعبث بي (1) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويل أمه، مسعر حرب (2) ، لو كان له رجال. فعلم أبو بصير أنه سيرده، فخرج حتى أتى سيف البحر، موضعاً يقال له: العيص، من ناحية ذي المروة، على طريق قريش إلى الشام، فقطع على رفاقهم (3) ، فاستضاف إليه كل من فر عن قريش ممن أراد
__________
(1) في الأصل: يبعث.
(2) مسعر الحرب: موقدها.
(3) الرفاق: جمع رفقة، وهم المسافرون، وأكثر ما تسمى " رفقة " إذا نهضوا طلب الميرة.
(1/210)

الإسلام، فآذوا قريشاً، وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يضمهم إلى المدينة.
وأنزل الله تعالى بفسخ الشرط المذكور في رد النساء، ومنع تعالى من ردعن. ثم نسخت براءة كل ذلك، والحمد لله رب العالمين.
وهاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فأتى أخواها عمارة والوليد ابنا عقبة فيها، فمنع الله تعالى من رد النساء، وحرم الله تعالى حينئذ على [المؤمنين] (1) الإمساك يعضم الكوافر، فنفسخ نكاحهن من المسلمين؛ ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
غزوة خيبر (2)
فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة مرجعه من الحديبية، ذا الحجة وبعض المحرم، ثم خرج في بقية من المحرم غازياً إلى خيبر، وذلك قرب آخر السنة السادسة من الهجرة (3) .
واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم نميلة بن عبد الله الليثي،
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2) انظر: الواقدي: 389، وابن هشام 3: 342، وابن سعد 2 / 1: 77، والطبري 3: 91، وأنساب الأشراف 1: 169، وفتوح البلدان: 29، وابن سيد الناس 2: 130، وابن كثير 4: 181، وزاد المعاد 2: 324، والإمتاع: 309، والمواهب 1: 173، وتاريخ الخميس 2: 42، والبخاري 5: 130.
(3) نظر الإشارة إلى رأي ابن حزم في الامتاع: 310 فيما يتعلق بتاريخ غزوة خيبر؛ والجمهور على أن هذه الغزوة كانت سنة سبع. وقال ابن كثير في كتاب الفصول: 74، أما ابن حزم فعنه أنها في سنة ست بلا شك، وذلك بناء على اصطلاحه، فهو يرى أن أول السنين الهجرية شهر ربيع الأول الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجراً، ولكن لم يتابع عليه، إذ الجمهور على أن أول التاريخ من محرم تلك السنة.
(1/211)

ودفع الراية إلى علي بن أبي طالبن وقيل: إنها كانت بيضاء. وسلك على عصر (1) ، فبنى له بها مسجد (2) ، ثم على الصهباء، ثم نزل بواد يقال له: الرجيع، فنزل بينهم وبين غطفان لئلا يمدوهم وكانت غطفان قد أرادت إمداد يهود خيبر فلما خرجوا أسمعهم الله تعالى من ورائهم حساً راعهم، فانصرفوا، وبدا لهم فأقاموا في أماكنهم. وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الآطام والحصون والأموال مالاً مالا. فأول حصونهم افتتح حصن اسمه: ناعم،وعنده قتل محمود بن مسلمة، ألقيت عليه رحى فقتلته؛ ثم القموص، حصن بني أبي الحقيق. وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم سبايا، منهن (3) : صفية بنت حيي بن أخطب، وكانت عند كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وبنتي (4) عم لها، فوهب عليه السلام صفية لدحية، ثم ابتاعها منه بتسعة أرؤس، وجعلها عند أم سليم، حتى اعتدت وأسلمت، ثم أعتقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها، وجعل عتقها صداقها، لا صداق لها غيره، فصارت سنة مستحبة لكل من أراد أن يفعل ذلك إلى يوم القيامة.
وفي غزوة خيبر حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية، وأخبر أنها رجس، وأمر بالقدور فألقيت وهي تفور بلحومها، وأمر بغسل
__________
(1) عصر: بالكسر ثم السكون، ويروى بفتحتين، والأول أشهر وأكثر، واختاره ياقوت: جبل بين المدينة ووادي الفرع.
(2) في الأصل: " بنى " مكان " فبنى " .
(3) في الأصل: منهم.
(4) في الأصل: بنى؛ وقد وردت كلمة " بنتي " في أكثر كتب السير منصوبة على تقدير فعل محذوف أي: وأصاب بنتي عم لها؛ وفي ابن سعد 8: 86 والإمتاع: 321: سبى سفية وبنت عم لها.
(1/212)

القدور بعد، وأحل حينئذ لحوم الخيل وأطعمهم إياها.
ثم فتح حصن الصعب بن معاذ، ولم يكن بخيبر حصن أكثر طعاماً من، ولا أوفر ودكاً منه (1) . وآخر ما افتتح عليه السلام من حصونهم: الوطيح والسلالم، حاصرهما بضع عشرة ليلة. وكان شعار المسلمين يوم خيبر أمت أمت.
ووقف إلى بعض حصونهم أبو بكر وعمر رضوان الله عليهما، فلم يفتحاه، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية إلى علي رضوان الله عليه، ففتحه، وكان أرمد، فتفل في عينيه، فبرئ.
وكان فتح خيبر: الأرض كلها وبعض الحصون عنوة وهي الأكثر [وبعضها] (2) صلحاً على الجلاء، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن عزل الخمس، وأقر اليهود على أن يعتملوها (3) بأموالهم وأنفسهم، ولهم النصف من كل ما يخرج منها من زرع أو ثمر، ويقرهم على ذلك ما بدا له. فبقوا على ذلك حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدة خلافة أبي بكر، وجمهور خلافة عمر؛ فلما كان في آخر خلافته، بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر في مرضه الذي مات فيه أن لا يبقى في جزيرة العرب دينان. فأمر بإجلائهم عن خيبر وغيرها من بلاد العرب، وأخذ المسلمون ضياعهم من مقاسم خيبر، فتصرفوا فيها. وكان
__________
(1) الودك: دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه.
(2) زيادة لابد منها لاطراد السياق ووضوحه.
(3) في الأصل: يعملوها؛ جاء في اللسان (مادة عمل) " وفي حديث خيبر: دفع إليهم أرضهم على أن يعتملوها من أموالهم؛ الاعتمال: افتعال من العمل، أي أنهم يقومون بما يحتاج إليه من عمارة وزراعة وتلقيح وحراسة ونحو ذلك " .
(1/213)

متولي قسمتها بين أصحابها جبار بن صخر من بني سلمة، وزيد بن ثابت من بني النجار.
وفي فتح خيبر أهدت يهودية تسمى زينب بنت الحارث، امرأة سلام ابن مشكم، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مصلية (1) ، قد جعلت فيها السم، وكان أحب اللحم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذراع، فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلاك منها مضغة، وكان معه عليه السلام بشر بن البراء بن معرور من بني سلمة، فأكل منه وازداد (2) لقمة، فقال عليه السلام: إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم، ولفظ لقمةً، ثم دعا باليهودية فاعترفت، ومات بشر من أكلته تلك، رضوان الله عليه، ولم يقتل عليه السلام اليهودية (3) .
وكان المسلمون يوم خيبر ألفاً وأربعمائة رجل ومائتي فارس. ووقع سهم زبير بن العوام بالخوع (4) من النطاة؛ ووقع أيضاً بالنطاة سهم بني بياضة وبني الحارث بن الخزرج؛ ووقع بنو عوف بن الخزرج ومزينة في ناعم من النطاة، ووقع سهم عاصم بن عدي أخي بني عجلان مع سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وسهم عبد الرحمن بن عوف، وسهام بني ساعدة، وبني النجار، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، وغفار، وأسلم، وعمر بن الخطاب، وبني سلمة، وبني حارثة، وجهينة، وثقيف من العرب - : في الشق.
__________
(1) المصلية: المشوية.
(2) في الأصل: ورد.
(3) انظر في الإمتاع: 322 اختلاف الأخبار في قتل اليهودية التي سمت الرسول.
(4) في الأصل: بالجوع. والخوع: اسم موضع بنطاة.
(1/214)

وكان عبيد بن أوس من بني حارثة بن عوف، عرف يومئذ بعبيد السهام، لكثرة ما اشترى من سهام الناس يومئذ. واشترى عمر مائة سهم بخيبر، فهي صدقته الباقية إلى اليوم، وإلى يوم القيامة.
ذكر من استشهد يوم خيبر (1)
ربيعة بن أكثم بن سخبرة (2) بن عمرو بن لكيز (3) بن عامر بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة.
وثقف بن عمرو بن سميط بن ثعلبة بن عبد الله بن غنم بن دودان.
ورفاعة بن مسروح وهؤلاء كلهم من بني أمية بن عبد شمس.
ومسعود بن ربيعة، من القارة، حليف بني زهرة.
وعبد الله بن الهبيب وقيل: [ابن الهبيب] (4) بن أهيب ابن سحيم بن غيرة، [من بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة] (5) ، حليف بني أسد بن عبد العزى وابن أختهم.
وبشر بن البراء بتن معرور، من بني سلمة، مات من السم الذي أكله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفضيل بن النعمان، من بني سلمة أيضاً.
__________
(1) انظر: الواقدي: 390، وابن هشام 3: 357، وابن سيد الناس 2: 142، وابن كثير 4: 214، والإمتاع: 329، وتاريخ الخميس 2: 53.
(2) في الأصل: صخيرة.
(3) هكذا في الأصل، وكذلك في ابن سعد وفي الإصابة وفي أصول السيرة، وقد غيرها محققو السيرة إلى " بكير " متابعين في ذلك أبا عمر في الاستيعاب.
(4) زيادة من ابن هشام 3: 358، والاستيعاب، والإصابة، وأسد الغابة.
(5) ما بين معكفين جاء في الأصل قبل اسم عبد الله بن الهبيب.
(1/215)

ومسعود بن سعد بن قيس بن خلدة بن عامر بن زريق.
ومحمود بن مسلمة بن خالد بن عدي بن مجدعة بن حارثة بن الحارث ابن الأوس، حليف لبني عبد الأشهل.
وابو ضياح ثابت (1) بن أمية بن امرئ القيس بن ثعلبة بن عمرو ابن عوف، من أهل قباء.
ومبشر بن عبد المنذر (2) بن دينار بن أمية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف.
والحارث بن حاطب.
وأوس بن قتادة.
وعروة (3) بن مرة بن سراقة.
وأوس بن القائد.
وأنيف بن حبيب.
وثابت بن أثلة (4) .
وطلحة.
والأسود الراعي، واسمه: أسلم (5) - كل هؤلاء من بني عمرو بن عوف.
ومن بني غفار:
__________
(1) في الأصل: ثابت بن ثابت؛ وقد ذكر الطبري أن أسعد " النعمان " وقال غيره: اسمه " عمير " (انظر السهيل 2: 244).
(2) في الأصل: " مبشر بن عبد الله بن المنذر " . والتصويب من كتب الرجال والسيرة.
(3) في الأصل: عمرو. والتصحيح عن ابن هشام 3: 358، وابن سيد الناس 2: 143.
(4) في الأصل: وثابت بن أثلة بن طلحة. وطلحة واحد من الذين استشهدوا بخيبر، ولكنه غر منسوب في كتب الرجال. وقال أبو ذر " هو طلحة بن يحيى بن مليل بن ضمرة " .
(5) عدو ابن إسحاق من بني أسلم.
(1/216)

عمارة بن عقبة بن حارثة بن غفار بن مليل بن ضمرة، أصابه سهم. ومن أسلم:
عامر بن الأكوع.
وإثر فتح خيبر قدم من الحبشة (1) :
جعفر بن أبي طالب، وامرأته: أسماء بنت عميس، وابناهما (2) : عبد الله ابن جعفر، ومحمد بن جعفر.
وخالد بن سعيد بن العاصي بن أمية بن عبد شمس، مع امرأته: أمينة بنت خلف.
وابناهما: سعيد، وأمة.
وعمرو بن سعيد بن العاصي (3) ، وكانت امرأته فاطمة بنت صفوان الكنانية قد ماتت بأرض الحبشة.
ومعيقيب بن أبي فاطمة، وهو الذي ولي بيت المال لعمر، وهو حليف آل عتبة بن ربيعة.
والأسود بن نوفل بن خويلد بن أسد بن عبد العزى.
وجهم بن قيس بن عبد شرحبيل، وابناه: عمرو بن جهم، وخزيمة بنت جهم. وهو من بني عبد الدار، وكانت امرأته: أ حرملة بنت عبد الأسود، قد هلكت بأرض الحبشة.
__________
(1) انظر الخبر عن قدوم جعفر وأصحابه من الحبشة في ابن هشام 4: 3، وابن كثير 4: 205، والإمتاع: 325.
(2) في الأصل: وبنوهما. ولم يذكر ابن إسحاق محمد بن جعفر، وفي السهيلي 2: 250 أن جعفراً ولد له في الحبشة: عبد الله، ومحمد، وعون.
(3) في الأصل: عمرو بن سعيد بن العاصي وأم خالد؛ أما أم خالد هذه فهي أمة بنت خالد ابن سعيد التي ذكرها قبل عمرو، وأكبر أن الناسخ سها فأخرها عن موضعها.
(1/217)

والحارث بن خالد بن صخر، من بني تيم بن مرة، وكانت امرأته: ريطة بنت الحارث بن جبيلة، هلكت بأرض الحبشة.
وعثمان بن ربيعة بن أهبان الجمحي.
ومحمية بن جزء الزبيدي، حليف لبني سهم، ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس.
ومعمر بن عبد الله بن نضلة، من بني عدي بن كعب.
وأبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس، من بني عامر بن لؤي.
ومالك بن ربيعة بن قيس بن عبد شمس، من بني عامر بن لؤي، ومعه امرأته: عمرة بنت السعدي بن وقدان بن عبد شمس العامرية.
وكان أتى سائر مهاجرة الحبشة قبل ذلك بسنتين، وكان هؤلاء المذكورون آخر من بقى بها (1) .
فتح فدك (2)
ولما اتصل بأهل فدك ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل خيبر، بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليؤمنهم، ويتركوا الأموال. فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، فكانت مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فلم تقسم لذلك، ووضعها عليه السلام حيث أمره ربه تعالى.
__________
(1) زاد ابن إسحاق 4: 5 في العائدين مع جعفر اثنين آخرين، هما: عامر بن أبي وقاص الزهري، وعتبة بن مسعود، حليف لهم من هذيل.
(2) انظر الخبر عن فتح فدك في: ابن هشام 3: 368، والطبري 3: 98، وفتوح البلدان: 36، والإمتاع: 331، وتاريخ الخميس 2: 58.
(1/218)

فتوح وادي القرى (1)
وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خيبر إلى وادي القرى، فأصيب بها غلام اسمه: مدعم، أصابه سهم غرب فقتله (2) ، فقال الناس: هنيئاً له الجنة، فقال عليه السلام: كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم، تشتعل عليه الآن ناراً؛ أو كما قال عليه السلام، فافتتحها عنوة وقسمها.
عمرة القضاء (3)
فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، أقام بها شهري ربيع، وشهري جمادى، ورجباً، وشعبان، ورمضان، وشوالا، فبعث في خلال ذلك السرايا، ثم خرج في ذي القعدة في السنة السابعة من الهجرة، قاصداً للعمرة، على ما عاهد عليه قريشاً حين الحديبية، وخرج أكابر قريش عن مكة، عداوة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم. فأتم عليه السلام عمرته، وتزوج هنالك بعد إحلاله ميمونة بنت الحارث، خالة ابن عباس وخالد بن الوليد؛ فلما تمت الثلاث أوجبت عليه قريش
__________
(1) انظر: الطبري 3: 91، وفتوح البلدان: 41، وابن سيد الناس 2: 143، وابن كثير 4: 212، وزاد المعاد 2: 354ن والإمتاع: 332، والمواهب 1: 182، وتاريخ الخميس 2: 58.
(2) يقال: اصابه سهم غرب، إذا أتاه من حيث لا يدري.
(3) انظر الخبر عن عمرة القضاء في: الواقدي: 399، وابن هشام 4: 12، وابن سعد 2 / 1: 87، والطبري 3: 100، وأنساب الأشراف 1: 169، وابن سيد الناس 2: 148، وابن كثير 4: 226، وزاد المعاد 2: 366، والإمتاع: 336، وتاريخ الخميس 2: 62، والبخاري 5: 141.
(1/219)

أن يخرج عن مكة، ولم يمهلوه حتى يبني بأم المؤمنين، فخرج فبنى بها بسرف (1) ، وهنالك ماتت أيام معاوية، وبها دفنت، وقبرها هنالك إلى اليوم مشهور.
غزوة مؤته (2)
فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرة القضاء، أقام بالمدينة ذا الحجة، والمحرم، وصفراً، وربيعاً، ثم بعث في جمادى الأولى من السنة الثامنة من الهجرة بعث الأمراء إلى الشام.
وقد كان أسلم قبل ذلك وبعد الحديبية وبعد خيبر: عمرو بن العاصي، وخالد بن الوليد، وعثمان بن طلحة بن أبي طلحة، وهم من كبار قريش.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجيش زيد بن حارثة، فإن أصابه قدر فعلى الناس جعفر بن أبي طالب، فإن أصابه قدر فعلى الناس عبد الله بن رواحة. وشيعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وودعهم، ثم انصرف ونهضوا. فلما بلغوا معان من أرض الشام، أتاهم الخبر: أن هرقل ملك الروم قد نزل أرض بني مآب، وهي أرض بني مآب المذكورين في كتب بني إسرائيل، وأنهم كانوا يغاورونهم في أيام دولتهم (3) ، وأنهم من بني لوط عليه السلام، وهي أرض البلقاء - : في مائة ألف من الروم،
__________
(1) " سرف " : بفتح السين وكسر الراء، ويجوز صرفاً ومنعها من الصرف.
(2) انظر غزوة مؤتة في: الواقدي: 401ن وابن هشام 4: 15، وابن سعد 2 / 1: 92، والطبري 3: 07، وابن سيد الناس 2: 153، وابن كثير 4: 241، وزاد المعاد 2: 374، والإمتاع: 344، وتاريخ الخميس 2: 70، والبخاري 5: 143.
(3) في الأصل: يعاورونهم؛ وغاور القوم: أغار عليه مرة وأغاروا عليه مرة.
(1/220)

ومائة ألف أخرى من نصارى أهل الشام من لخم، وجذام، وقبائل قضاعة: من بهرام وبلى وبلقين، وعليهم رجل من بني إراشة من بلى، يقال له: مالك بن راقلة (1) . فأقام المسلمون في معان ليلتين، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نخبره بعدد عدونا، فيأمرنا بأمره أو يمدنا. فقال (2) عبد الله بن رواحة: يا قوم، إن الذي تكرهون للتي خرجتم تطلبون يعني الشهادة وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة، وما نقاتلهم إلا بهذا الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فهي إحدى الحسنيين (3) : إما ظهور، وإما شهادة. فوافقه الجيش على هذا الرأي، ونهضوا، حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء، لقوا الجموع التي ذكرناها مع هرقل إلى جنب قرية يقال لها: مشارف، وصار المسلمون في قرية يقال لها: مؤتة، فجعل المسلمون على ميمنتهم قطبة بن قتادة العذرى، وعلى الميسرة عباية بن مالك الأنصاري، وقيل: عبادة. واقتتلوا، فقتل الأمير الأول: زيد بن حارثة، ملاقياً بصدره الرماح، والراية في يده؛ فأخذها جعفر بن أبي طالب، ونزل عن فرس شقراء، وقيل: إنه عقرها، فقاتل حتى قطعت يمينه، فأخذ الراية بيسراه، فقطعت، فاحتضنها، فقتل كذلك، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. فأخذ عبد الله بن رواحة الراية، وتردد عن النزول بعض التردد، ثم صمم، فقاتل حتى قتل. فأخذ الراية ثابت بن أقرم أخو بني العجلان، وقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم. فقالوا:
__________
(1) هكذا في الأصل. وهي كذلك في بعض نسخ السيرة، وفي بعضها: رافلة، وزافلة: وفي الطبري: رافلة.
(2) في الأصل: فقال له.
(3) في الأصل: الحسنتين.
(1/221)

أنت؛ قال: لا. فأخذها خالد بن الوليد، وانحاز بالمسلمين، فأنذر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الأمراء المذكورين قبل ورود الخبر، في يوم قتلهم بعينه.
تسمية من استشهد يوم مؤتة (1)
زيد بن حارثة، الأمير الأول.
وجعفر بن أبي طالب، الأمير الثاني بعده.
وعبد الله بن رواحة، الأمير الثالث.
ومسعود بن الأسود بن حارثة بن نضلة، من بني عدي بن كعب.
ووهب بن سعد بن أبي سرح، من بني حسل، ثم من بني عامر ابن لؤي.
وعباد بن قيس، وهو وعبد الله بن رواحة من بني الحارث بن الخزرج.
والحارث بن النعمان بن إساف بن نضله بن عوف بن غنم بن مالك ابن النجار.
وسراقة بن عمرو بن عطية بن خنساء بن مبذول، من بني مازن ابن النجار.
وابو كليب، وقيل: أبو كلاب.
وأخوه: جابر ابنا عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول.
وعمرو، وعامر، ابنا سعد بن الحارث بن عباد بن سعد بن عامر بن ثعلبة
__________
(1) راجع ابن هشام 4: 30، وابن سيد الناس 2: 156، وابن كثير 4: 259، وتاريخ الخميس 2: 75.
(1/222)

ابن مالك بن أفصى، من بني النجار.
هؤلاء من ذكر منهم.
وقيل: إن عدد المسلمين يوم مؤتة ثلاثة آلاف.
غزوة فتح مكة (1)
فأقام عليه السلام بعد مؤتة جمادى ورجباً. ثم حدث الأمر الذي أوجب نقض عهد قريش المعقود يوم الحديبية، وهو: أن خزاعة كانت في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم: مؤمنها وكافرها، وكانت كفار بني بكر بن عبد مناة بن كنانة في عقد قريش، فعدت بنو بكر بن عبد بن كنانة في عقد قريش، فعدت بنو بكر بن عبد مناة على قوم من خزاعة، على ماء يقال له: الوتير، بأسفل مكة. وكان سبب ذلك: أن رجلاً يقال له: مالك بن عباد الحضرمي، حليفاً لآل الأسود بن رزن، خرج تاجراً، فلما توسط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه وأخذوا ماله، وذلك قبل الإسلام بمدة، فعدت بنو بكر بن عبد مناة، رهط الأسود بن رزن، على رجل من بني خزاعة، فقتلوه بمالك بن عباد. فعدت خزاعة على سلمى وكلثوم وذؤيب، بني الأسود ابن رزن، فقتلوهم، وهؤلاء الإخوة أشراف بني كنانة، كانوا يودون في الجاهلية ديتين، ويؤدي سائر قومهم دية دية، وكل هذه المقاتل قبل الإسلام؛ فلما جاء الإسلام حجز ما بين من ذكرنا، واشتغل الناس به،
__________
(1) انظر خبر الفتح في: الواقدي: 406، وابن هشام 4: 31، وابن سعد 2 / 1: 96، والطبري 3: 110، وأنساب الأشراف 1: 170، وابن سيد الناس 2: 163، وابن كثير 4: 278، وزاد المعاد 2: 384، والإمتاع: 357، والمواهب 1: 191، وتاريخ الخميس 2: 77، والبخاري 5: 145.
(1/223)

فلما كلنت الهدنة المنعقدة يوم الحديبية أمن الناس بعضهم بعضاً، فاغتنم بنو الديل من بني بكر بن عبد مناة تلك الفرصة، وغفلة خزاعة، وأرادوا إدراك ثأر بني الأسود بن رزن. فخرج نوفل بن معاوية الدبلى بمن أطاعه من بني بكر بن عبد مناة، وليس كلهم تابعه، جاء حتى بيت خزاعة، وهم على الوتير، فاقتتلوا، ورفدت قريش بني بكر بالسلاح، وأعانهم قوم من قريش بأنفسهم مستخفين، وانهزمت خزاعة إلى الحرم.
فقال قوم نوفل بن معاوية: يا نوفل، الحرم، اتق الله إلهك. فقال الكافر: لا إله له اليوم، والله يا بني كنانة إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تدركون فيه ثأركم فقتلوا رجلاً من خزاعة يقال له: منبه، وانجحرت في دور مكة (1) ، فدخلوا دار بديل بن ورقاء الخزاعي، ودار (2) مولى لهم اسمه رافع، وكان هذا نقضاً للعهد الواقع يوم الحديبية.
فخرج عمرو بن سالم الخزاعي ثم أحد بني كعب، وبديل بن ورقاء، وقوم من خزاعة، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مستغيثين مما أصابهم به بنو بكر بن عبد مناة وقريش، فأجابهم. وأنذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أبا سفيان سيأتي ليشد العقد ويزيد في المدة، وأنه سيرجع بغير حاجة. وندمت قريش على ما فعلت، فخرج أبو سفيان إلى المدينة ليشد العقد ويزيد في المدة، فلقى بديل بن ورقاء بعسفان، فكتمه بديل مسيره إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره [أنه] (3)
__________
(1) في الأصل: " انحجزت " ، وهو تصحيف. وانجحر: دخل الجحر أو المكمن لاجئاً مضطراً. وفي ابن هشام 4: 33: " فلما دخلت خزاعة مكة لجئوا إلى دار بديل بن ورقاء. " وفي الإمتاع: 357 - 358 " حتى أدخلوهم دار بديل بن ورقاء.... " .
(2) في الأصل: وكان.
(3) زيادة يقتضيها السياق.
(1/224)

إنما سار خزاعة على الساحل؛ فنهض أبو سفيان حتى أتى المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة، أم المؤمنين، فذهب ليقعد على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطوته دونه، فقال لها في ذلك. فقالت: هو من أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت رجل مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس عليه. فقال: لقد أصابك بعدي شر يا بنية. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، فكلمه، فلم يجبه بكلمة. ثم ذهب أبو سفيان إلى أبي بكر الصديق، فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أتى له، فأبى أبو بكر من ذلك، فلقي عمر فكلمه في ذلك، فقال عمر: أنا أفعل ذلك والله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به. فدخل على علي بيته، فوجد عنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحسن وهو صبي، فكلمه فيما أتى له، فقال له علي: والله ما نستطيع أن نكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر قد عزم عليه. فالتفت إلى فاطمة فقال: يا بنت محمد، هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس فقالت: ما بلغ بني ذلك، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال علي: يا أبا سفيان، أنت سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس ثم ألحق بأرضك. فقال: أترى ذلك مغنياً عني شيئاً قال: ما أظن ذلك، ولكن لا أجد لك سواه. فقام أبو سفيان في المسجد فقال: يا أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس. ثم ركب فانطلق راجعاً إلى مكة حتى قدمها، وأخبر قريشاً بما فعل وبما لقي، فقالوا له: ما جئت بشيء، وما زاد علي بن أبي طالب على أن لعب بك.
ثم أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سائر إلى مكة، فأمرهم
(1/225)

بالتجهز لذلك، ودعا الله تعالى أن يأخذ عن قريش بالأخبار (1) . فكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش كتاباً يخبرهم فيه بقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتى الخبر بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى، فدعا علي بن أبي طالب والزبير والمقداد، وهم فرسان، فقال لهم: انطلقوا إلى روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب لقريش. فانطلقوا، فلما أتوا المكان الذي وصف لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجدوا المرأى فأناخوا بها، ففتشوا رحلها كله فلم يجدوا شيئاً، فقالوا: والله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال علي: والله لتخرجن الكتاب، أو لنلقين الثياب. فحلت قرون رأسها، فأخرجت الكتاب منها؛ فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قرئ عليه قال: ما هذا يا حاطب فقال حاطب: يا رسول الله، والله ما شككت في الإسلام، ولكني ملصق في قريش، فأردت أن أتخذ عندهم يداً يحفظونني بها في شأفتي (2) بمكة وولدي وأهلي. فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك يا عمر، لعل الله تعالى قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف، واستخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري، وذلك لعشر خلون من رمضان، فصام حتى بلغ الكديد، بين عسفان وأمج، فأفطر بعد صلاة
__________
(1) نص الحديث: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها.
(2) في الأصل: ساقتي، وهو تصحيف. وشأفة الرجل: أهله وماله.
(1/226)

العصر، وشرب على راحلته علانية ليراه الناس، وأمر بالفطر، فبلغه صلى الله عليه وسلم أ، قوما تمادوا على الصيام فقال: أولئك العصاة. فكان هذا نسخا لما تقدم من إباحة الصيام في السفر. ولم يسافر صلى الله عليه وسلم بعدها في رمضان أصلا، فهذا الحكم في السفر ناسخ لما قبله، ولم يأت بعد شيء ينسخه، ولا حكم يرفعه.
فلما نزل مر الظهران، ومعه من بني سليم ألف رجل، ومن مزينة ألف رجل وثلاثة (1) رجال، وقيل: من بني سليم سبعمائة، ومن غفار أربعمائة، ومن أسلم أربعمائة، وطوائف من قيس وأسد وتميم وغيرهم، ومن سائر القبائل أيضاً جموع.
وقد أخفى الله تعالى عن قريش الخبر لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم وجسون خائفون؛ وقد خرج أبو سفيان، وبديل بن ورقاء، وحكم بن حزام، يتجسسون الأخبار.
وقد كان العباس بن عبد المطلب هاجر في تلك الأيام، فلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة، فبعث ثقله إلى المدينة، وانصرف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غازيا. فالعباس من المهاجرين من قبل الفتح، وقيل: بل لقيه بالجحفة.
وذكر أيضاً أن أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، أخا أم سلمة أم المؤمنين، لقياه بنيق العقاب مهاجرين؛ فاستأذنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يأذن لهما، فكلمته أم سلمة فأذن لهما، فأسلما.
__________
(1) في الأصل: وثلاث.
(1/227)

فلما نزلوا بمر بمر الظهران أسفت نفس العباس على ذهاب قريش، إن فجئهم الجيش قبل أن يأخذوا (1) لأنفسهم فيستأمنوا (2) ، فركب بغلة النبي صلى الله عليه وسلم ونهض، فلما أتى الأراك وهو يطمع أن يرى حطاباً أو صاحب لبن يأتي مكة فينذرهم؛ فبينما هو يمشي كذلك، إذ سمع صوت أبي سفيان وبديل بن ورقاء، وهما يتساءلان، وقد رأيا نيران عسكر النبي صلى الله عليه وسلم، وبديل يقول لأبي سفيان: هذه والله نيران خزاعة. فيقول له أبو سفيان: خزاعة أقل وأذل من أن تكون لها هذه النيران. فلما سمع العباس كلامه ناداه: يا أبا حنظلة. فميز أبو سفيان صوته، فقال: أبو الفضل قال: نعم. فقال له أبو سفيان: ما الشأن فداك أبي وأمي. فقال له العباس: ويحك يا أبا سفيان، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، وإصباح قريش! فقال له أبو سفيان: وما الحيلة فقال له العباس: والله إن ظفر بك ليقتلنك، فارتدف خلفي وانهض معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأردفه العباس، فأتى به العسكر، فلما مر على نار عمر، نظر عمر إلى أبي سفيان فميزه، فقال: أبو سفيان عدو الله، الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد. ثم خرج يشتد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسابقه العباس، فسبقه العباس على البغلة، وكان عمر بطيئاً في الجري، فدخل العباس ودخل عمر على أثره، فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بلا عقد، فأذن لي أضرب عنقه. فقال العباس: يا رسول الله، قد أجرته. فراده عمر الكلام، فقال العباس: مهلاً يا عمر، فلو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا،
__________
(1) في الأصل: يأخذا.
(2) في الأصل: " فيستامنون " .
(1/228)

ولكنه من بني عبد مناف. فقال عمر: مهلاً، فوالله لإسلامك، يوم أسلمت (1) ، كان أحب إليّ من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحمله إلى رحله، ويأتيه به صباحاً، ففعل العباس ذلك. فلما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم قال (2) له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم يأن لك ألم تعلم أنه لا إله إلا الله فقال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! والله لقد ظننت أنه لو كان معه إله غيره لقد أغنى. ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك ألم تعلم أني رسول الله فقال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأصولك! أما هذه (3) والله فإن في نفسي منها شيئاً حتى الآن. فقال له العباس: ويحك، أسلم قبل أن تضرب عنقك. فأسلم، فقال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فاجعل له شيئاً. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.
وهذا القول من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل من كان لا يقاتل من أهل مكة، بنص جلي لا إشكال فيه، فمكة مؤمنة بلا شك، ومن ثم لم تؤخذ عنوة بوجه من الوجه، ولم أمن مسلم من أي من المسلمين
__________
(1) في الأصل: لكان.
(2) في الأصل: فقال.
(3) في الأصل: أما والله هذه.....
(1/229)

قرية من دار الحرب على أن يغلقوا أبوابهم ولا يقاتلوا، على ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل مكة، لكان أماناً صحيحاً، وللزم ذلك كل مسلم، ولحرمت دماؤهم وموالهم وديارهم، وللزمهم الإسلام أو الجلاء، إلا أن يكونوا كتابيين، فيباح لهم القرار، على الجزية والصغار، فكيف أمان رسول الله صلى الله عليه وسلم! فمن قال: إن مكة صلح على هذا المعنى، فقد صدق؛ ومن قال: إنها صلح على أنهم دافعوا وامتنعوا حتى صالحوا، فقد أخطأ؛ وأما من قال: عنوة، فقد أخطأ على كل حال.
والصحيح اليقين: أنها مؤمنة على دمائهم وذراريهم وأموالهم ونسائهم، إلا من قاتل أو استثني فقط.
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم العباس أن يوقف أبا سفيان بخطم الجبل أو الوادي (1) ليرى جيوش الله تعالى. ففعل ذلك العباس، وعرض عليه القبائل، قبيلةً قبيلة، إلى أن جاء موكب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، رضوان الله عليهم، خاصةً، كلهم في الدروع والبيض. فقال أبو سفيان: من هؤلاء قال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، فقال: والله ما لأحد بهؤلاء من قبل، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً. فقال العباس: إنه النبوة يا أبا سفيان. قال: فهذا إذن. فقال العباس: يا أبا سفيان، النجاء إلى قومك. فأسرع أبو سفيان، فلما أتى مكة عرفهم بما أحاط بهم، وأخبرهم بتأمين رسول الله صلى الله عليه وسلم كل من دخل داره، أو المسجد، أو دار أبي سفيان.
__________
(1) أصل الخطم من كل طائر: منقاره، ومن الدابة: مقدم أنفها، وخطم الجبل: أنفه.
(1/230)

وتأبش (1) قوم ليقاتلوا، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رتب الجيش.
وكان قد جعل الراية بيد سعد بن عبادة، ثم بلغه أنه قال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفع الراية إلى الزبير بن العوام، وقيل: إلى علي بن أبي طالب، وقيل: إلى قيس بن سعد بن عبادة، وكان الزبير على الميسرة، وخالد بن الوليد على الميمنة، وفيها أسلم وغفار ومزينة وجهينة، وكان أبو عبيدة بن الجراح على مقدمة موكب النبي صلى الله عليه وسلم، وسرب رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيوش من ذي طوى، وأمر الزبير بالدخول، من ذي كداء (2) ، في أعلى مكة، وأمر خالداً بالدخول من الليط، أسفل مكة، وأمرهم بقتال من قاتلهم.
وكان عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، قد جمعوا جمعاً بالخندمة ليقاتلوا، فناوشهم أصحاب خالد القتال. وأصيب من المسلمين رجلان، وهما: كرز بن جابر، من بني محارب بن فهر، وخنيس بن خالد ابن ربيعة بن أصرم الخزاعي، حليف بن منقذ، شذا عن جيش خالد فقتلا. وأصيب أيضاً من المسلمين سلمة بن الميلاء الجهني. وقتل من المشركين نحو ثلاثة عشر رجلاً، ثم انهزموا.
وكان شعار المسلمين يوم الفتح وحنين والطائف: فشعار الأوس: يا بني
__________
(1) في الأصل: تأبس؛ وتأبش القوم: تجيشوا وتجمعوا.
(2) قال ابن حزم: كداء - المدودة - بأعلى مكة عند المحصب. وكدي، بضم الكاف وتنوين الدال، بأسفل مكة عند ذي طوى. وكدي، مصغراً، لمن خرج من مكة إلى اليمن - (انظر ياقوت - نقلا عن ابن حزم).
(1/231)

عبيد الله؛ وشعار الخزرج: يا بني عبد الله؛ وشعار المهاجرين: يا بني عبد الرحمن.
وأمن النبي صلى الله عليه وسلم الناس كما ذكرنا، حاشا عبد العزى بن خطل، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعكرمة بن أبي جهل، والحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد [بن] قصي (1) ، ومقيس بن صبابة، وقينتي ابن خطل، وهما: فرتنا وصاحبتها، وسارة مولاة لبني عبد المطلب.
فأما ابن خطل وهو من بني تيم الأدرم بن غالب، كان قد أسلم وبعثه صلى الله عليه وسلم مصدقاً، وبعث معه رجلاً من المسلمين، فعدا عليه وقتله ولحق بالمشركين فوجد يوم الفتح وقد تعلق بأستار الكعبة، فقتله سعيد بن حريث المخزومي وأبو برزة الأسلمي.
وأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لحق بمكة فاختفى، وأتى به عثمان بن عفان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أخاه من الرضاعة، فاستأمن له رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فسكت عليه السلام ساعةً، ثم آمنه وبايعه. فلما خرج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: هلا قام إليه بعضكم فضرب عنقه فقال رجل من الأنصار: هلا أومأت إلينا فقال: ما كان لنبي أن يكون له خائنة الأعين. فعاش حتى استعمله عمر، ثم ولاه عثمان مصر. وهو الذي غزا إفريقية، ولم يظهر منه بعد إسلامه إلا خير وصلاح ودين.
وأما عكرمة بن أبي جهل ففر إلى اليمن، فاتبعته امرأته أم حكيم
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(1/232)

بنت الحارث بن هشام، فردته، فأسلم، وحسن إسلامه.
وأما الحويرث بن نقيذ، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فقتله علي بن أبي طالب يوم الفتح.
وأما مقيس بن صبابة، فكان قد أتى النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً، ثم عدا على رجل من الأنصار فقتله لقتله أخاه خطأ، فقتله يوم الفتح نميلة ابن عبد الله الليثي، وهو ابن عمه.
وأما قينتا ابن خطل، فقتلت إحداهما، واستؤمن للأخرى، فأمنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعاشت إلى أن ماتت بعد ذلك بمدة، وكانتا تغنيان بهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما سارة، فاستؤمن لها أيضاً، فأمنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعاشت إلى أن أوطأها رجل فرساً بالأبطح فماتت.
واستتر رجلاً من بني مخزوم عن أم هانئ بنت أبي طالب، فأمنها، فأمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانها لهما، وكان علي رضوان الله عليه قد أراد قتلهما، وقيل: إنهما الحارث بن هشام، وزهير بن أبي أمية أخو أم سلمة، فأسلما، وكانا من خيار المسلمين.
وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكعبة، ودعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة بعد أن مانعت أم عثمان دونه، ثم أسلمته. فدخل صلى الله عليه وسلم الكعبة، ومعه أسامة بن زيد، وبلال، وعثمان ابن طلخة، ولا أحد معهم، وأغلقوا الأبواب، وتموا (1) حيناً، وصلى صلى الله عليه وسلم في داخلها، ثم خرج وخرجوا، ورد المفتاح إلى عثمان بن طلحة،
__________
(1) تموا: لعله أراد بقوا. ولا ندري هل تصح في اللغة. وفي الامتاع: 385 " فكوشفوا " .
(1/233)

وأبقى له حجابة البيت، فهي في ولده إلى اليوم، في ولد شيبة بن عثمان ابن طلحة.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكسر الصور التي داخل الكعبة وخارجها، وتكسير الأصنام التي حول الكعبة وبمكة. وأذن له بلال على ظهر الكعبة.
وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثاني يوم الفتح، فأخبر أنه قد وضع مآثر الجاهلية حاشا سدانة البيت، وسقاية الحاج. وأخبر أن مكة لم يحل القتال فيها لأحد قبله، ولا لأحد بعده، وأنها لم تحل لأحد غيره، ولم تحل له إلا ساعة من نهار، ثم عادت كحرمتها بالأمس، لا يسفك فيها دم.
ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأصنام وهي مشدود بالرصاص، فأشار إليها بقضيب كان في يده وهو يقول: جاء الحق وزهق الباطل. فما أشار لصنم منها إلا خر لوجهه.
وتوقعت الأنصار أن يبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فأخبرهم أن المحيا محياهم، والممات مماتهم.
ومر بفضالة بن عمير بن الملوح الليثي، وهو عازم على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: ما كنت تحدث به نفسك قال: لا شيء، كنت أذكر الله. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: استغفر الله. ووضع يده على صدره، فكان فضالة يقول: والذي بعثه بالحق، ما رفع يده عن صدري حتى ما أجد على ظهر الأرض أحب إليّ منه.
(1/234)

وهرب صفوان بن أمية إلى اليمن، فاتبعه عمير بن وهب الجمحي بتأمين رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه، فرجع، فأكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنظره أربعة أشهر.
وكان ابن الزبعري السهمي الشاعر قد هرب إلى نجران، ثم رجع فأسلم.
وهرب هبيرة بن أبي وهب المخزومي، زوج أم هانئ بنت أبي طالب، إلى اليمن، فمات كافراً هناك.
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم السرايا حول مكة، يدعو إلى الإسلام، ويأمرهم بقتال من قاتل. وفي جملتهم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، فقتل منهم وأخذ، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وبعث علياً بمال إليهم، فودي لهم قتلاهم، ورد إليهم ما أخذ منهم.
ثم بعث خالد بن الوليد إلى العزى، وكان بيتاً بنخلة تعظمه قريش وكنانة وجميع مضر، وكان سدنته بنو شيبان من سليم حلفاء بني هاشم، فهدمه (1) .
وكان فتح مكة لعشر بقين من رمضان سنة ثمان.
__________
(1) انظر فيما يتعلق ببعث خالد إلى بني جذيمة وإلى العزى: ابن هشام 4: 70، 79، وابن سعد 2: 105، 106 والطبري 3: 123، وابن سيد الناس 2: 184، 185، وابن كثير 4: 312 - 316، والإمتاع: 398، 399، والمواهب 1: 207، وتاريخ الخميس 2: 95، 97.
(1/235)

غزوة حنين (1)
فلما بلغ فتح مكة هوازن، جمعهم مالك بن عوف النصري، واجتمع إليه ثقيف، وقومه بنو نصر بن معاوية، وبنو جشم، وبنو سعد بن بكر، ويسير من بني هلال بن عامر، ولم يسهد من [قيس عيلان] (2) غير هؤلاء، وغاب عن ذلك عقيل وبشر ابنا كعب بن ربيعة بن عامر، وبنو كلاب بن ربيعة بن عامر، وسائر إخوتهم، فلم يحضرها من كعب وكلاب أحد يذكر، وساق بنو جشم مع أنفسهم شيخهم وكبيرهم وسيدهم فيما خلا: دريد بن الصمة، وهو شيخ كبير لا ينتفع به، لكن يتيمن بمحضره ورأيه، وهو في هودج لضعف جسمه. وكان في ثقيف سيدان لهم، في الأحلاف: قارب بن الأسود بن مسعود بن معتب، وفي بني مالك: ذو الخمار سبيع بن الحارث بن مالك، وأخوه: أحمر بن الحارث. والرياسة في الجميع إلى مالك النصري، فحشد من ذكرنا، وساق مع الكفار أموالهم وماشيتهم ونساءهم وأولادهم، ليحموا بذلك في القتال، فنزلوا بأوطاس.
فقال لهم دريد: مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء (3) فقالوا: ساق مالك مع الناس أموالهم وعيالهم. فقال: أين مالك فقيل له: هو ذا. فسأله دريد: لم فعلت ذلك فقال
__________
(1) انظر الخبر عن حنين في: الواقدي 417، وابن هشام 4: 80ن وابن سعد 2 / 1: 108، والطبري 3: 125، وابن سيد الناس 2: 187، وابن كثير 4: 322، وزاد المعاد 2: 438، والإمتاع: 401، والمواهب 1: 208، وتاريخ الخميس 2: 99، والبخاري 5: 153.
(2) زيادة من ابن هشام 4: 80.
(3) اليعار: صوت الغنم، وقيل: صوت المعزى.
(1/236)

مالك: ليكون مع الناس أهلهم وأموالهم فيقاتلوا عنهم. فقال دريد (1) : راعى ضأن والله، وهل يرد المنهزم شيء إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسلاحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك.
ثم قال: ما فعل كعب وكلاب قالوا: لم يشهدها منهم أحد. قال: غاب الجد والحد (2) ، لو كان يوم علاء ورفعة لم يغب عنه كعب وكلاب، ولوددت أنكم فعلتم كما فعلت كعب وكلاب. فمن شهدها من بني عامر قالوا: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر. قال: ذانك الجذعان: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر، لا ينفعان ولا يضران (3) ! يا مالك! إنك لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئاً (4) ، ارفعهم إلى ممتنع ديارهم، وعلياء قومهم، ثم ألق الصباة على متون الخيل (5) ، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك كنت قد أحرزت أهلك ومالك. فأبى مالك ذلك، وخالفت هوازن دريداً واتبعوا مالك بن عوف، فقال دريد: هذا يوم لم أشهده، ولم يغب عني:
يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع وبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، عشاء، عبد الله بن أبي حدرد
__________
(1) في الأصل: فقال له مالك.
(2) الحد: النشاط والسرعة والمضاء في الأمور.
(3) الجذعان: مثنى الجذع، وهو الصغير السن، ومن ثم فهو قليل التجربة.
(4) بيضة القوم: أصلهم ومجتمعهم وموضع سلطانهم ومستقر دعوتهم.
(5) في الأصل: " الصبا " والصباة: جمع صابئ، وهو من يخرج من دين إلى دين، وكان يقال للرجل إذا اسلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم: قد صبأ، وكانت العرب تسمي النبي: الصابئ، لأنه خرج من دين قريش إلى دين الإسلام. فالصباة - في كلمة دريد: هم المسلمون. انظر اللسان.
http://syangar.bodo.blogspot.co.cc