خلفية البحث
أما في باب ( المطبوع والمصنوع) فقد صنف ابن رشيق من الشعر ما هو مطبوع وهو الأصل، ونوعاً ثانياً سموه المصنوع؛ أما المصنوع فجعله على ضربين: أولهما: ما كان فيه قصد إلى التجويد ومحاولة من الشاعر تبرئة شعره من الضعف، وثانيهما ذلك النوع الذي لم يفعله المتقدمون وإنما فعله المولدون وكثر في أشعارهم ويريد ابن رشيق ما سماه البلاغيون باسم البديع. وفي حديثه عن زحمة الشعر بصور البديع يرفض هذه الصور ولكنه في الوقت ذاته لا يحب (أن يكون أيضاً خالياً منها معسولاً ككثير من شعر أشجع وأشباهه من هؤلاء المطبوعين) ونقف هنا وقفة قصيرة عند هذا الحكم إذ يبدو أنه فيه متأثر بنظرية الوسط فلا كثرة الصور البديعية ترضيه، ولا خلوة منها مما يستحسنه.
أما في باب (الأوزان) فقد تحدث فيه عن استغناء المطبوع عن علم العروض وأشار إلى واضع علم الموازين الخليل بن أحمد الفرهيدي، ثم أورد علة تسمية بحور الشعر عند الخليل ومن خلال قراءة باب الأوزان هناك ملحظ بسيط وهو أن ابن رشيق فتح باباً وهو الأذواق التي ترتضي غير الموزون عن العرب، فعنده أنه متى ارتضت الطباع أوزاناً جديدة كان للشعراء أن ينظموا عليها لا يبالون غير متقيدين بقديم بل واقع الأمر في الشعر القديم نفسه ما جاء على غير الأوزان التي انتهى إليها الخليل.
أما بالنسبة لباب (القوافي) فقد أسهب بالحديث عنه إسهاباً طويلاً وبرزت في تنايا الحديث عن القافية موضوعات عديدة منها: حد القافية، ومنزلة القافية من الشعر، وحروف القافية وحركاتها، والتفريق بين القافية المطلقة والمقيدة.[1]
وكان لابن رشيق في باب (التقفية والتصريع) تصريح صريح في وقوفه على عيوبه حيث يقول: بأن الإكثار من التصريع دال على التكلف لأنه نوع من الصنعة يحتاج إلى إعمال فكر وتوجه النفس، والأصل أن يترك الشاعر نفسه على سجيتها تأتي ما تأتي من غير إكراه أو اعتساف.


الباب الثاني
1-    ابن رشيق القيرواني  390 - 463 هـ / 1000 - 1071 م
هو أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي، ولد في نهايات القرن الرابع الهجري في مدينة (المحمدية) في المغرب العربي، وكان ذا ميول أدبية فاتجه إلى القراءة، ورغب في الاستزادة من علوم اللغة والأدب ، فرحل إلى القيروان ولما يبلغ السابعة عشرة، واتصل ثمة بالمعز بن باديس وابنه تميم وأهل العلم والأدب فاشتهر أمره ونبه ذكره.
تتلمذ على يد أشهر علماء عصره كالقزاز النحوي صاحب (الضرائر الشعرية) وعبد الكريم النهشلي صاحب (الممتع في علم الشعر وعمله) وغيرهما. توفي رحمه الله غرَّة ذي القعدة سنة 456هـ عن ست وستين سنة.
2-  اللفظ والمعنى عند ابن رشيق القيرواني  
يبدأ ابن رشيق حديثه في باب ( حدّ الشعر وبنيته) عن بنية الشعر وأساسه وحده حيث يقوم بعد النية على أربعة أشياء هي: اللفظ، الوزن، المعنى، القافية، ويفرق بين الكلام الموزون المقفى بنية وبدون نية وابن رشيق يظهر عليه تأثره بصيغ المناطقة وعباراتهم، وخاصة في كلمة (حد) التي بدأ بها عنوان الباب، أما إضافة ( النية) في تعريفه للشعر فقد جاء بعد ملاحظته لكثير من الآيات الموزونة المقفاة ولا تدخل في الشعر، فاشتراط ابن رشيق النية والقصد جاء في محله.
أما في باب ( اللفظ والمعنى) فيتحدث فيه عن الارتباط الوثيق بين المعنى واللفظ كارتباط الروح والجسد ، والآراء المتباينة فيمن يؤثر اللفظ على المعنى ويؤثر المعنى على اللفظ ، وبين أن المطبوعين هم الذين يهتمون بالمعنى دون غيره، فأما المتصنعون فهم الذين يؤثرون اللفظ والصياغة على المعنى وحجتهم بان المعاني موجودة في طباع الناس   ، يستوي فيها الجاهل والحاذق، وليس المقصود هنا باللفظة الكلمة المفردة في حد ذاتها ، بل هي مجموعة من العلاقات بين الألفاظ وليس مجموعة الألفاظ.
أما المعنى فيراد به المضمون الذي تحويه العبارة، والأفكار التي يقدمها المنشئ في أدبه مستعيناً على ذلك باللغة.
فقد اعتبر ابن رشيق ( ت 456 هـ ) اللفظ والمعنى شيئاً واحداً متلازماً ملازمة الروح للجسد ، فلا يمكن الفصل بينهما بحال ، قال : اللفظ جسم ، وروحه المعنى ، وارتباطه كارتباط الروح بالجسم : يضعف بضعفه ، ويقوى بقوته، فإذا سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصاً للشعر وهجنة عليه .. فإن اختل المعنى كله وفسد بقي اللفظ مواتاً لا فائدة فيه.[2]
     ويبدو أن هذا النوع من التعقيد والتقرير أقرب إلى القصد والاعتدال منه إلى التمحل والتعقيد ، فالصورة عند ابن رشيق لا تكون واضحة الرؤية خصبة التخطيط إلا من خلال عنايتها باللفظ لتجعله الوسيط الدال على المعنى المراد لأكيد الصلة ووشيج النسب بينهما « لأن التفكير في اللفظ والمعنى تفكير جملي يفكر فيه الأديب مرة واحدة وبحركة عقلية واحدة ، فإذا رتبت المعاني في الذهن ترتيباً منطقياً ، وإذا تحددت في الفكر تحديداً يجمعه ترابط المعاني وتداعيها ، هذا الترابط وهذا التداعي الذي يرضاه المنطق أو يرضاه حسن الأديب ، انحدرت هذه المعاني على اللسان بألفاظها الملائمة بها خطابة ، وانحدرت على القلم بألفاظها المطاوعة لها كتابة وشعراً من غير تهذيب واختيار لهذه الألفاظ ».
     وهذا المنهج الذي اختطه ابن رشيق تكاد تنجذب له نفوس قسم من النقاد القدامى والمعاصرين، ففي طليعة القدماء ابن الأثير ، الذي يرى أن عناية العرب بالفاظها إنما هو عناية بمعانيها ، لانها أركز عندها وأكرم عليها ، وإن كان يسوغ بل يعترف أن عناية الشعراء منصبة على الجانب اللفظي ، ولكنها وسيلة لغاية محمودة وهي إبراز المعنى صقيلاً ، فإذا رايت العرب قد أصلحوا ألفاظهم وحسنوها ، ورققوا حواشيها ، وصقلوا أطرافها ، فلا تظن أن العناية إذ ذاك إنما هي بألفاظ فقط ، بل هي خدمة منهم للمعاني.[3]
     ولا تفسر هذه المحاولة من ابن الأثير بالاقتداء بخطوة ابن رشيق وهي وإن لم تصرح بمزج اللفظ والمعنى في قالب واحد ، ولكنها تشير إلى قيمة المضمون والشكل معاً في صقل الصورة ، وتلمح إلى طبيعة التلاؤم بينهما .
     وقد لاقى هذا الاتجاه سيرورة وانتشاراً عند كثير من النقاد المحدثين ـ وإن لم يثبت اطلاعهم عليه ، لأنهم لا يشيرون إلى مصدره وكأنهم مبتكرون ـ فربطوا بين اللفظ والمعنى حتى ليخيل إليك أنهما شيء واحد ، وحدبوا على تطوير نظرتهم هذه وصعدوا بها إلى مستوى الحقائق الثابتة من خلال إشباع البحوث استدلالاً لها ، ونسجاً على منوالها ، حتى أخذت طريقها إلى مستوى النظريات والصيغ النهائية .
     يرى الناقد الفرنسي دي جورمون « أن الأسلوب والفكر شيء واحد ، وإن من الخطأ محاولة فصل الشكل عن المادة » [4] .
     وطبيعي أنه ينظر إلى الألفاظ بأنها أساليب وإلى المعاني بأنها أفكار ، ثم يخطئ القائلين بفصل تلك الألفاظ عن هذه المعاني .
     ويقول ( دونالد استوفر ) باتحاد الشكل والمحتوى، ويرى فيهما شخصية واحدة لا يمكن أن ينظر إلى أجزائها في استيعابها وتحديد النظرة الفاحصة إليها فيقول : إن القصيدة تتمتع بشخصية متماسكة حية ، وأنها وحدة تتألف من عناصر مختلفة كثيرة، وهي متماسكة ومتوازنة، من حيث الشكل والمحتوى بل يتداخل فيها الشكل والمحتوى على نحو لا يمكن معه تصور كل منهما على حد.[5]
     ويعتقد الناقد الأمريكي « كلينث بروكس » باستحالة فصل المادة عن الشكل وبالعكس في أي حال من الأحوال لأن تركيبها قد اتحد فلا يبرز إلا كلا موحداً فيقول « إن جوهر القصيدة لا يبرز إلا كلاً موحداً ، أي يستحيل علينا تجريد الجوهر وصياغته في شكل آخر ، لأن الجوهر في هذه الحالة هو المركب الجديد من بناء لا ينفصل عن موسيقاه ، والصور والدلالات المتشابكة والمواقف المعينة ، أي القصيدة ذاتها .[6]
     هكذا كانت النظرة بالنسبة للنقاد الغربيين ، فإذا استقبلنا النقاد العرب المعاصرين وجدنا الفكرة أعمق رسوخاً ، وأصلب عوداً ، والنظرة أفحص إمعاناً ، وأكثر ذيوعاً ، تارة بالاتحاد بينهما ، وأخرى بعدم الانفصال ، وثالثة بوحدة المؤدى بين الشكل والمحتوى .
     يرى الأستاذ أحمد الشايب عدم إمكانية فصل القيمة الفنية بين اللفظ والمعنى ويرى كلاً منهما انعكاساً للآخر بسبب « شدة الارتباط بين المادة والصورة أو بين اللفظ والمعنى ، أو بين الفكرة والعاطفة من ناحية ، والخيال واللفظ من ناحية ثانية ، إذ كان هذان صورة لذينك ، وأي تغيير في المادة يستتبع نظيره في الصورة والعكس صحيح » (1) .
     ويرى الدكتور بدوي طبانة أن اللفظ والمعنى حقيقتان متحدتان ، ومنزلتهما واحدة لا تمايز بينهما ، والعناية بأحدهما عناية بالطرف الآخر ، والاهتمام يجب أن يقسم عليهما بالتساوي لأنه اهتمام بالعمل الأدبي وزنة للقيمة الفنية فيقول : « وليست منزلة المعنى دون منزلة اللفظ في تقدير القيمة الفنية للعمل الأدبي ، ولا شك عند المنصفين أن وجوب مراعات جانب المعنى لا يقل شأناً عن وجوب الاهتمام بالالفاظ » (2) .
     وقد أبدى الدكتور شوقي ضيف اهتماماً كبيراً بالمسألة ، ووجه لها عنايته الفائقة ، وأعار لها الصفحات العديدة في كتابه « النقد الأدبي » وتوصل إلى أن الفصل بين اللفظ والمعنى ، أو الشكل والمضمون أمر مستحيل ... « فليس هناك محتوى وصورة ، بل هما شيء واحد ، ووحدة واحدة ، إذ تتجمع في نفس الأديب الفنان مجموعة من الأحاسيس ويأخذ تصويرها بعبارات يتم بها عمل نموذج أدبي ، وأنت لا تستطيع أن تتصور مضمون هذا النموذج أو معناه بدون قراءته ، وكذلك لا تستطيع أن تتصور صورته أو شكله أو لفظه ، دون أن تقرأه ، فهو يعبر عن الجانبين جميعاً مرة واحدة ، وليسا هما جانبين ، بل هما شيء واحد ، أو جوهر واحد ممتزج متلاحم،
____________
(1)
أحمد الشايب ، أصول النقد الأدبي : 246 .
(2) .


ولا يتم نموذج فني باحدهما دون الآخر ... وإذن فلا فارق بين المعنى والصورة أو اللفظ في نموذج أدبي ... ومعنى ذلك أن مادة النموذج الأدبي وصورته لا تفترقان فهما كل واحد . وهو كل يتألف من خصائص جمالية مختلفة ، قد يردها النظر السريع إلى الخارج أو الشكل ، ولكننا إن أنعمنا النظر وجدناها ترد إلى الداخل والمضمون ، فهي تنطوي فيه ، أو قل تنمو فيه ... وإذن فكل ما نلقاه في كتب البلاغة من وصف اللفظ إن تأملنا فيه وجدناه في حقيقته يرد إلى المعنى ، حتى الجناس وجرس الألفاظ ، فضلاً عما توصف به الكلمات من ابتذال أو غرابة . والمضمون بهذا المعنى يتحد مع الشكل ، فهو البناء الأدبي كله وهو الحقائق والأحاسيس النفسية الكامنة فيه » (1) .
    
وهذه اللقطات مما خطط له شوقي ضيف ، وعزاه إلى أصحاب الفلسفة الجمالية ، يفتح آفاقاً جديدة في مفهوم الصورة الأدبية ودلالتها ، إذ يتخطى بها الشكل إلى المضمون ، فيعتبرها وحدة متماسكة الأجزاء ، متناسقة الأعظاء . والطريف فيه أن يعود بالمحسنات البديعية وأجناس التصنيع على المعنى في خلق الصورة ، ويرتبط بين موسيقية اللفظ وجرس الكلمة وبين إرادة المعنى في بناء الهيكل الأدبي للنص . ومن هنا ـ ويتحدد انطلاقنا مع الصورة الأدبية في أبعادها ـ كان لزاماً علينا أن نبحث بناء القصيدة في شكلها الخارجي باعتباره الإطار التكويني لمادة القصيدة ، ومادة القصيدة باعتبارها المحتوى الذي ازدحمت ـ نتيجة له ـ الأشكال والرسوم الأولية لهيكل القصيدة العام الذي يتبلور به الجمال التخطيطي لها ، بغية أن تكون معالم الرؤية بينة السمات للصورة الأدبية من خلال هذا التلاحم العضوي والاتصال الفعلي بين الصيغة الظاهرية والقيم الكامنة في المعاني التي جسدت حقيقتها الألفاظ .
     وقد يبدو هذا بعيداً عن مجال الصورة الأدبية ، باعتبارها الشكل الناطق والمعبر ، ولكن نظرة فاحصة لبناء القصيدة ـ في هذا الشكل الناطق والمعبر ـ تغني عن الأطناب ، وتكفي دلالة في التأكيد أن هذا الشكل نطق
____________
(1)
شوقي ضيف ، في النقد الأدبي : 163 ـ 165 .

وعبر بما احتوى من مادة ولم يكن هيكلاً فارغاً عقيم الاصداء ، وإنما استقام سوياً متكاملاً بهذه العلاقة واللحمة الطبيعية بينه وبين المضمون فعاد متجاوب الأجراس .
     وامر آخر يقرب من الموضوع ويتابع من خطوه ، هو أن الإيقاع الموسيقي والميزان العروضي ، ليسا من المعاني والألفاظ في شيء فهما خارجان عن هاتين الحقيقتين ، ولكنهما متداخلان معهما ، وملازمان لهما ، ولا ينعدمان في الدلالة على الصورة في القصيدة ، وإن كانا شيئاً والقصيدة في محتواها شيئاً آخر .
     والحق أن إدراك هذه العلاقة بين اللفظ والمعنى ، واعتبارهما وحدة متجانسة في دلالتها على الصورة ، يمكن اعتباره امتداداً منطقياً لجزء مهم من رأى الفريق الرابع من فرقاء المعركة .

قول ابن رشيق:
أما ابن رشيق في كتابه العمدة فقد جمع بين القولين ورأى أن لكلاهما فضل ومزية، يقول ابن رشيق: "اللفظ جسم، وروحه المعنى، وارتباطه به كارتباط الروح بالجسم، يضعف بضعفه، ويقوى بقوته، فإذا سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصاً للشعر وهجنة عليه، كما يعرض لبعض الأجسام من العرج والشلل والعور وما أشبه ذلك، من غير أن تذهب الروح، وكذلك إن ضعف المعنى واختل بعضه كان للفظ من ذلك أوفر حظ، كالذي يعرض للأجسام من المرض بمرض الأرواح، ولا تجد معنى يختل إلا من جهة اللفظ، وجريه فيه على غير الواجب، قياساً على ما قدمت من أدواء الجسوم والأرواح، فإن اختل المعنى كله وفسد بقي اللفظ مواتاً لا فائدة فيه، وإن كان حسن الطلاوة في السمع، كما أن الميت لم ينقص من شخصه شيء في رأي العين، إلا أنه لا ينتفع به ولا يفيد فائدة، وكذلك إن اختل اللفظ جملة وتلاشى لم يصح له معنى؛ لأنا لا نجد روحاً في غير جسم البتة".
وكذلك فعل قدامة في كتابه نقد الشعر حيث قسم الشعر أربعة أقسام، جيد اللفظ جيد المعنى، جيد اللفظ رديء المعنى، رديء اللفظ جيد المعنى، رديء اللفظ رديء المعنى وتعدث عن ائتلافهما، وهو بذلك يتفق مع ابن رشيق بتفصيل أكثر وهو الصواب والحق فإننا نرى البيت حسن معناه وساء لفظه و البيت ساء معناه وحسن لفظه.




1 جلال محمود داود، الجامعة الأردنية
2 الجرجاني ، أسرار البلاغة : 22 ـ 23
3 ابن الأثير ، المثل السائر : 1|353 .
[4] وليم فان أوكونور ، النقد الأدبي : 102
4 بدوي طبانة ، دراسات في نقد الأدب العربي من الجاهلية إلى نهاية القرن الثالث : 138 ـ 139
[6]  محمد محمد ، النقد التحليلي : 114
http://syangar.bodo.blogspot.co.cc