النظرية الإشارية
طبيعة النظرية: هي من أقدم النظريات التي حاولت بيان ماهية المعنى. القائلين بها يرون أن معنى الكلمة هو ببساطة ما تشير إليه في الخارج. وقد حاول بعضهم أن يحدد طبيعة المشار إليه لأقسام الكلام المختلفة:
العلَم: معناه: مشارٌ إليه فردٌ معين في الخارج.
الأفعال: معناها: الأحداث المشار إليها الواقعة في الخارج.
الصفات: معناها: خصائص الأشياء المشار إليها في الخارج.
الأحوال: معناها: خصائص الأحداث المشار إليها الواقعة في الخارج.
اسم الجنس مثل شجرة: معناه الإشارة إلى فرد غير معين في الخارج أو مجموعة الأشجار التي في الخارج.
قول بعض الأصوليين بالنظرية الإشارية:
نجد كلامهم عن هذا الموضوع في باب ”اللغات“ تحت موضوع ”الموضوع له اللفظ“.
يقول جمال الدين الشيرازي: اللفظ موضوع للوجود الخارجي، ولا ينافي كونه للوجود الخارجي وجود استحضار للصور الذهنية.
وفصل بعضهم قائلا: إذا كان لشيء له وجود خارجي وذهني فاللفظ موضوع للخارجي، وأما إذا كان لا وجود له في الخارج [غول، سعلاة، رخ] فاللفظ موضوع للصورة الذهنية.

مآخذ عل النظرية الإشارية:
1- هناك كلمات ليس لها مشار إليه في الخارج، مثل:
أ- بعض الأدوات نحو: إن، ليت، لعل، لكن ... إلخ.
ب- كلمات لها دلالات معنوية أو عقلية، نحو: الصدق، الصبر، العلم، الشهامة، ظنّ، شكّ، أوجس.
ج- أشياء وهمية خرافية: غول، سعلاة، رخ، عنقاء، نمنم.
د- أشياء غيبية: جن، ملائكة، عفاريت.
2- هناك فرق بين المعنى والمشار إليه، فقد يكون هناك معنيان والمشار إليه واحد، نحو: نجمة الصباح ونجمة المساء لأن كليهما يشير إلى جرم سماوي واحد. وكذلك قد يدعى الشخص الواحد أبا وأخا، وعما، وجدا.
3- قد يكون المعنى واحدا والمشار إليه متعددا، نحو بعض الضمائر وأسماء الإشارة التي لها معان لغوية معينة ولكنها قد تطلق على أشخاص وأشياء متعددة.
4- قد يفنى المشار إليه ويبقى المعنى: حدائق بابل، مكتبة الإسكندرية، مركز التجارة العالمي.
النظرية التصورية
طبيعة المعنى في النظرية التصورية:المعنى هو الصورة الذهنية التي تستدعيها الكلمة عند السامع أو التي يفكر فيها المتكلم. انظر الشكل التالي:

النظرية التصورية عند الأصوليين:
وجدت نظرية الصورة الذهنية عند بعض الأصوليين مثل الجويني وفخر الدين الرازي الذي يقول بأن الألفاظ المفردة ما وضعت للموجودات الخارجية بل للمعاني الذهنية. وتبعه البيضاوي وابن الزملكاني, والقرطبي.
حجة الرازي: ”إن من رأى شيئا من بعيد وظنه حجرا أطلق عليه حجرا، فإذا دنا منه وظنه شجرا أطلق عليه لفظ شجر، وعندما دنا أكثر وظنه فرسا أطلق عليه لفظ فرس، ثم إذا تحقق منه وعرف أنه إنسان أطلق عليه لفظ إنسان. دل ذلك على أن اللفظ دائر مع المعاني الذهنية دون الموجودات الخارجية.
أما المركبات فهي موضوعات للأحكام الذهنية لا للوجود الخارجي؛ لأن قولنا: ”قام زيد“, لا يفيد قيام زيد, وإنما يفيد الحكم به والإخبار عنه, ثم ننظر مطابقته للخارج أم لا.
النظرية التصورية عند الغربيين: نجد عندهم نظريات متقاربة حول اعتبار المعنى صورة ذهنية أو مفهوما فكريا. ومن صورها:
نظرية الأفكار الذهنية عند الفيلسوف لوك Locke الذي يرى أن المعاني لها وجود مستقل في الذهن في شكل صور ذهنية ناتجة عن تشكيل حواسنا لها في الذهن، وهذه الصور قد تكون بسيطة كفكرة اللون الأصفر أو الأزرق وقد تكون معقدة مركبة من صور بسيطة فمثلا فكرة كرة الثلج مركبة من ابيض، بارد، وكرة، والكلمات في الأصل لا تمثل شيئا بل الذي يعطيها معنى هي الأفكار التي في ذهن مستعملها، فعبارة ”أنا سعيد“ ليس لها معنى عند الببغاء لأن ليس في ذهنه أفكار لهذه الألفاظ.
النظرية التصورية عند Richards  و Ogden ريتشاردز وأوغدن: قدم هذان الفيلسوفان نظرية تحليلية لعناصر الدلالة في مثلثهما المشهور:

ونظريتهما هذه ليست إشارية بحتة ولا تصورية بحتة وإنما حاولت أن تبين أن الدلالة هي محصلة علاقة بين عناصر ثلاثة: (أ) علامة، (ب) فكرة أو مفهوم (ج) مشار إليه في العالم.
العلاقة بين العلامة والفكرة مباشرة واعتباطية.
العلاقة بين الفكرة والمشار إليه تلازمية (إشارية)، وقد تكون شبه إيقونية.
العلاقة بين العلامة والمشار إليه غير مباشرة ولا تكون إلا عن طريق الفكرة؛ لذا رسم خط متقطع بين العلامة والمشار إليه.

تعليق مالينوفيسكي، وهو عالم لغوي وانثروبولوجي (دارس لعلم الإنسان)، علق على فكرة ريتشاردز وأوغدن قائلا: إن هذا المثلث لم يقدم لنا ألا جانبا واحدا من هذه العلاقة بين العلامة والفكرة والمشار إليه، بينما هناك أشكال متعددة لهذه العلاقة تختلف تبعا للتطور الفكري والعقلي للإنسان أو تبعا لتغير الحال. وذكر ثلاثة حالات رئيسية وهي:
الحالة الأولى: يوجد حال وردة فعل صوتية، وردة الفعل هذه ليست علامة أنما صوت ينتج كردة فعل لحالة معينة كألم أو فرح أو حزن، كقولك إذا لمست سطحا ساخنا وأحسست بالألم "أح" أو "أو".
الحالة الثانية: يوجد مشار إليه يصاحبه صوت فعال، مثال ذلك
ما نشاهده عند الأطفال في أواخر السنة الأولى عندما يرون شيئاً أو يرون أحد والديهم فيصدرون أصواتا مثل:ما ما ما وبا با بال و دا دا دا، وهذه الأصوات ليست علامات ولكنها كما ذكرنا أصوات فعالة؛ لأنها معبرة عن الرغبة.
الحالة الثالثة: لها ثلاث صور هي:
أ) يوجد مشار إليه وعلامة فعالة، ويتحقق ذلك أثناء النشاط البشري. فإذا كان هناك مثلا إنسان يعمل في منجرة ومعه من يساعده فعندما يقول "مسمار" فليس هناك إلا علامة ومشار إليه حاضر أمامه، والفكرة ليست ملحة لأن الانتقال من العلامة إلى الشيء مباشر وبدون واسطة الفكرة.
(ب) توجد العناصر الثلاثة ولكن العلاقة بين العلامة والمشار إليه غير مباشرة، وهذا يتحقق أثناء الكلام السردي. وهذا هو ما يمثله مثلث ريتشاردز وأوغدن لأن الكلام عن أشياء حدثت في الماضي ولا نملك منه ألا صورا وأفكارا من تجاربنا الماضية، فلو ذهب رجل في رحلة صيد وعاد ليخبر عنها، فتكلم عن البحر وأحواله وعن الصيد ومراكبه وشباكه وعن السمك وأنواعه فلا يملك الحاضرون من كل هذا إلا صورا ذهنية من خبراتهم الماضية.
ج) توجد العناصر الثلاثة ولكن العلاقة بينها كلها مباشرة، ويتحقق ذلك في الكلام السحري كذكر الجن والصواعق والحيوانات المفترسة والأمراض المخيفة التي تمثل كلماتها أعيانها فتؤثر في السامعين كتأثير الأشياء نفسها، ويصدرون عند سماعها تعاويذ وردود فعل تنبئ عن تساوي العناصر الثلاثة.

تعليق أولمان على نظرية ريتشاردز وأوغدن: علق ستيفن أولمان وهو كبار علماء الدلالة على نظرية ريتشاردز وأوغدن التي يمثلها مثلثهما المشهور فقال:
أدخلت في المعنى عنصرا زائدا خارجا عن اللغة وهو المشار إليه الذي قد يبقى كما هو ولكن معناه يتغير: ويمكن أن نمثل لذلك من ثقافننا العربية بالخمر (كانت رمز الضيافة في الجاهلية، وأصبحت أم الخبائث في الإسلام) فالخمر بحد ذاتها لم تتغير  وإنما تغيرت الفكرة المتعلقة بها.
  بينت ما تمثله الكلمة بالنسبة للسامع ولكنها أهملت وجهة نظر المتكلم:
- السامع: يسمع كلمة (شجرة) يفكر في الشجرة يفهم معنى شجرة.
- المتكلم: يفكر في (الشجرة) ينطق بكلمة (شجرة).
فريتشاردز وأوغدن أهملا أحد طرفي هذه العلاقة المتبادلة التي تمثل المعنى حقيقة.

مآخذ على النظرية التصورية:
1) المعنى الذي تقدمه النظرية غير واضح لأن الصور الذهنية للشيء الواحد متعددة ومختلفة، فمثلا الشكل الهندسي البسيط للمثلث قد يختلف من شخص إلى آخر، فما بالك لو أردنا أن نحدد الصورة الذهنية لكلمة بيت، حصان، شجرة، طريق؟

2-  هناك تعبيرات مختلفة قد يكون لها صورة ذهنية واحدة. فلو رأيت طفلا من بعيد يضرب الأرض بقدميه، فلربما قلت “إنه يتألم“ أو ”إنه يدهس على حشرة ليقتلها“ أو ”إنه يلعب“ أو إنه ضجر“.
3- هناك ألفاظ لها صور ذهنية مبهمة وغير واضحة المعالم ويختلف الناس فيها اختلافا كبيرا، خاصة تلك التي تسمي أشياء وهمية كالرخ والعنقاء والسعلاة والغول، وكذلك التي لها معان عقلية كالظن والشك والحب والصدق.
4- من أقوى الاعتراضات على هذه النظرية ما وجهه إليها السلوكيون من أنها تتحدث عن أشياء لا تخضع للنظر العلمي والفحص والاختبار كالفكرة والصورة الذهنية.

النظرية السلوكية
هي نظرية نشأت في أحضان علم النفس وقد أراد أصحابها إن يجعلوا هذا العلم كالعلوم الطبيعية: الفيزياء والكيمياء والميكانيكا بأن يعتمد المناهج العلمية القائمة على الملاحظة والتجربة. وقد النظرية السلوكية على الأسس التالية:
1) التشكيك في الاصطلاحات الذهنية مثل: فكرة، صورة ذهنية، مفهوم، شعور، عاطفة؛ لأنها غير خاضعة للملاحظة ومعرفتنا عنها قائمة على الاستبطان الذي لا يركن إليه.
2) الاعتقاد بأنه لا فرق جوهري بين سلوك الإنسان والحيوان والسلوك اللغوي الإنساني لا يختلف عن النظام الإشاري الحيواني.
3) النزعة على التقليل من دور الدوافع الغريزية والفطرية والتأكيد على دور التعلم والاكتساب؛ لذا يرون أن التجربة هي طريق المعرفة وليس التفكير.
4) الميكانيكية: أي إيمانهم بأن كل شيء يحدث في العالم تحتمه قوانين فيزيائية عامة هي المؤثرات وراء كل سلوك لغوي أو حركي.

تحليل Bloomfield بلومفيلد للمعنى تحليلا سلوكيا
أعلن بلومفيلد سنة 1926 تخليه عن المذهب العقلاني في علم النفس واعتماده على أفكار Weiss ويس الذي يرى أن المعنى يكمن في مظاهر المؤثر والاستجابة المصاحبة للتعبير.
بلومفيلد في كتابه الكلاسيكي ”اللغة“ يبدي عدم ثقته بالمذهب العقلي ويدعو إلى أن تعتمد الدراسات اللغوية مناهج العلوم الطبيعية. وقد أراد أن يدرس المعنى من وجهة نظر سلوكية وعلمية، فقال إن المعنى هو:
الموقف الذي نطق فيه المتكلم والاستجابة التي استدعاها كلامه عند السامع. وقد حاول أن يوضح هذا التعريف في شكل قصة قصيرة:
كان هناك رجل يدعى جاك وامرأته جيل يسيران في غابة فرأت المرأة تفاحة وكانت تشعر بالجوع فقالت: ”إني جائعة“ سمع الرجل كلامها فصعد شجرة التفاح وقطف منه واحدة وقدمها لها لتأكلها.

تحليل معنى الحدث الكلامي: قام بلومفيلد بتحوير الصيغة السلوكية لتمثل المؤثر والاستجابة:
 م      س  حيث م = مؤثر و س = استجابة لتوافق الحدث الكلامي:

       م ◄▬▬مـ ـ ـ ـ ـ ـ سـ  ◄▬▬ س

حيث (م) = المؤثر البيئي ، (سـ)= استجابة لغوية، (مـ) = مؤثر لغوي، (س) = استجابة فعلية.
ويحاول أن يقدم هذا المنظور السلوكي في شكل علمي، فيقول:
المؤثر هو التفاح ويمكن وصفه علميا اعتمادا على معطيات علم النبات، وكذلك يمكن تقديم وصفي علمي فسيولوجي للجوع. كذلك يمكن وصف سلوك التسلق وقطف التفاحة.

مآخذ على النظرية السلوكية:
1) ليس بمقدورنا وصف مؤثرات كل حدث كلامي؛ لأنه أحيانا قد تكون المؤثرات خفية وغير ظاهرة فمثلا الحب والكره والحقد يصعب وصفها أو وصف مؤثراتها بشكل علمي.
2) تعدد المؤثرات وراء العبارة الواحدة، فمثلا ”إني جائع“ قد ينطقها الولد لأنه جائع فعلا، أو لأنه لا يريد أن ينام، أو لأنه يريد أن يلعب بالطعام.
3) تعدد الاستجابات للتعبير الواحد، فقول الولد إني جائع قد تكون الاستجابة له:
- تقديم طعام له.
- أو توبيخه قائلين له: ألم تأكل قبل قليل؟
- أو نجيبه قائلين: هيا اذهب إلى غرفتك فلقد حان وقت نومك.
وهذا يلزم منه اختلاف معنى ”إني جائع“ لاختلاف الاستجابات له.
4) هناك فرق لا يمكن إنكاره بين رد الفعل للكلمة ورد الفعل للشيء نفسه، فرد الفعل للتفاحة هو أكلها وأما لكلمة تفاحة فلا.
5) هذه النظرية يلزم منها نسبة معان للثرثرة والهراء واللغو الذي لا معنى لهو ولكن قد يكون له ردة فعل غاضبة أو ساخرة


نظريات الدلالة

1- نظرية الإشارة

- نظريات الدلالة:
ظهر عند الغربيين عدد من النظريات التي تصف المعنى وتشرح طبيعته وتفسره وتصنفه إلى أنواع مختلفة تبعا لمعايير متنوعة، ومن هذه النظريات نظرية الإشارة، والنظرية السلوكية، والنظرية السياقية، وسنسلط الضوء على هذه النظريات في المباحث الآتية.
1- نظرية الإشارة:
تعود هذه النظرية إلى أصول فلسفية ومنطقية وسيكولوجية، ولذا فإن إلقاء الضوء على هذه النظرية يحتاج إلى الإلمام ببعض المفاهيم الفلسفية والمنطقية، أهمها:
1، 1- مراتب الوجود:
أي ما يراه الفلاسفة والمناطقة من أن وجود الأشياء يتجسد في أربعة أنواع:
أ‌- الوجود الذهني، وهو وجود صورة للشيء المتحدث عنه في الذهن، كأن يستدعي ذكر كلمة ‘إنسان’ صورة مجردة تلخص أشكال كل الناس الذين رآهم في حياته.
ب‌- الوجود الخارجي للشيء، وهو وجود أفراد البشر بكل أجناسهم وألوانهم وأشكالهم في الواقع الخارجي.
ت‌- الوجود اللفظي، وهو وجود أصوات الكلمة التي تدل على صورته الذهنية وتستدعيها في دماغه، ويشار بها إلى أفراد ذلك الشيء في العالم الخارجي، وذلك كلفظة [إنسان].
ث‌- الوجود الكتابي، وهو وجود حروف تدل على الكلمة المعنية كحروف كلمة [إنسان].
وقد أشار علماء التراث إلى هذه الأنواع الأربعة، كما هو واضح في بيان الغزالي لرتبة الألفاظ من مراتب الوجود[1]، وتوضيح منزلة وجود المعاني في هذا المربع الدلالي عند حازم القرطاجني.[2]
والشائع عند علماء الدلالة واللسانيين عامة الاقتصار على الأنواع الثلاثة الأولى دون الرابع لأنهم لا يرون أن الكتابة جزء طبيعي من اللغة البشرية الطبيعية، بل هي عملية اصطلاحية اصطناعية لرموز حرفية لا تمثل بالضرورة الأصوات المنطوقة. ويعد أوجدن وريتشاردز من أوائل من وضع هذه الأنواع الثلاثة في شكل مثلث عرف بالمثلث الدلالي.
وعلى الرغم من أن أوجدن وريتشاردز اختارا المصطلح الفكرة أو الإشارة للطرف ب من المثلث،[3] فإن استخدام كلمة مفهوم أو صورة ذهنية أولى لانسجامها مع ما هو شائع في تراث العربية ولاسيما في مجالي المنطق والفلسفة.
1، 2- التفريق بين الإشارة والإحالة:
خلافا لما هو سائد في علم الدلالة يميل بعض اللسانيين إلى التفريق بين الإشارة reference والإحالة denotation، فالإشارة هي "علاقة بين اللفظ وما يشير إليه في المقام المستخدم فيه"،[4] والإحالة هي علاقة اللفظ بالمفهوم العام الذي يحيل عليه في ذهن المخاطب بغض النظر عن المقام أو السياق الخاص الذي ورد فيه. وتبدو أهمية هذا التفريق العبارات التي لها معنى عام ولكن المقصود بها في سياق ما أضيق من مفهومها العام، كما في قوله تعالى حكاية عن سيدنا إبراهيم -عليه السلام-: "قال: بل فعله كبيرهم هذا" التي تقتصر إحالاتها على مفاهيم عامة يعين في فهمها الوضع اللغوي، ولا يتضح المقصود بها إلا بفك رموز إشاراتها أي بتحديد مراجع تلك الإشارات كما سنوضح في المباحث القادمة، وبناء على ذلك يمكن القول إن الإحالات مرتبطة بالوضع اللغوي أي أنها تندرج في المعاني لا في المقاصد التي لا تنكشف إلا بتوضيح الإشارات.
ومن أمثلة الفرق بين الإشارة والإحالة ما تدل عليه التعبيرات الآتية: سيد المرسلين، وأفضل الكائنات، وخاتم النبيين. فإحالاتها هي معانيها الوضعية بغض النظر عن المقصود بها، أما إشاراتها فتعني تأويلها بتوضيح المقصود بها على وجه التحديد وهو سيدنا محمد ص-. فالمحال عليه إذن هو شخص موصوف بأنه سيد جميع الرسل، وأنه أفضل المخلوقات، وأنه لا نبي بعده، وقد أعانتنا عقائدنا الإسلامية (التي تدخل في إطار السياق الثقافي) على معرفة المشار إليه في كل التعبيرات السابقة.
ومن المهم هنا أن نلاحظ الصلة بين الإحالة، والوضع، واللغة، والمعنى، والجملة من جهة، والإشارة والاستعمال، والكلام، والقصد (أو المراد) والقولة من جهة أخرى.
الإحالة
الإشارة
الوضع
الاستعمال
اللغة
الكلام
المعنى
القصد
الجملة
القولة
1، 3- التعيين:
تتميز بعض الألفاظ اللغوية بإبهامها الشديد بحيث لا تتضح معانيها إلا من خلال السياق الذي وردت فيه، ويطلق على العملية التي يحدد فيها المقصود بتلك الألفاظ مصطلح ‘التعيين’ deixis ، وهو يشمل الآتي:
1- تعيين الأشخاص person deixis، وذلك بإرجاع الضمائر المختلفة إلى ما تشير إليه.
2- تعيين الزمان time deixis، وذلك بتحديد المراد بالألفاظ الدالة على الأزمنة مثل غدا والأسبوع القادم، والشهر المقبل، وأمس، والسنة الماضية، وحينئذ، والآن، وقبل ذلك، وبعدئذ إلخ.
3- تعيين المكان place ، ويتم ببيان المقصود بالأماكن من خلال السياق الذي وردت فيه، ومن الألفاظ المكانية المبهمة هنا وهناك، وفوق، وتحت، وأمام، وذلك المكان، وهذا الأمر، ونحو ذلك.
ولا يخفى أن التعيين لا بد منه في تحديد المشار إليه، ونقل الألفاظ من حيّز الإحالة إلى حيّز الإشارة بالمفهوم السابق للمصطلحين.
1، 4- الفرق بين المسمى والمعنى:
يعود التفريق بين المسمى nominatum والمعنى meaning إلى الفيلسوف الألماني قوتلب فريجة، وقد عرف المعنى بأنه "الطريقة التي يعبر بها عن الشيء"[5] في حين أن المسمى هو العلم الذي أطلق على ذلك الشيء. وقد نشأ هذا التفريق عن ملاحظة فريجة أن عباراتي نجم الصباح ونجم المساء تشيران إلى مسمى واحد هو نجم الزهرة venus، ولكنهما اختلفا في معنييهما. ويفيد هذا التفريق كثيرا في فهم ظاهرة الترادف الإشاري (أو الترادف في المسمى)، ويقصد به اتفاق المرجع الذي يشير إليه اللفظ مع اختلاف معاني الألفاظ المستخدمة في الدلالة عليه. ومن أمثلته الإشارة إلى آدم عليه السلام بالعبارات الآتية:
(أ‌) أول الأنبياء
(ب‌) أول مخلوق بشري
(ت‌) أبو البشر
(ث‌) الجد الأول للإنسانية
(ج‌) زوج حواء
فقد اتفقت هذه الألفاظ في إشاراتها (أي في مسماها) واختلفت في إحالاتها أو معانيها.
1، 5- الفرق بين المفهوم والماصدق
يرتبط التفريق بين المفهوم intension والماصدق extension باسم كارناب Carnap، وهو تفريق قريب من تفريق فريجة السابق بين المسمى والمعنى، ولذا يذكر كارناب أن تفريق فريجة هو الذي أوحى إليه به. ولعله يقصد ذكّره به لأن المصطلحين معروفان في الفلسفتين الإغريقية والإسلامية منذ مئات السنين. ويقصد بمفهوم اسم ما -كما يذكر لاينز- مجموعة الخصائص البارزة التي تنطبق على ذلك الاسم. ومن أمثلتها الأوصاف ‘حيوان ذو قدمين بدون ريش’ التي تنطبق على كل إنسان، وهي مختلفة من حيث مفهومها عن ‘حيوان ناطق’ مثلا، ولكنهما في الواقع الخارجي يشيران إلى نفس الأفراد؛ إذ كل ‘حيوان ذو قدمين بدون ريش’ هو في الواقع ‘حيوان ناطق’، وبذلك نقول عن هذين التعبيرين أنهما مختلفان في مفهومهما، ولكنهما مترادفان في الماصدق، أي في الأفراد الذين يصدق عليهم المفهومان المذكوران.
1، 6- مزايا نظرية الإشارة:
ساعدت المفاهيم النظرية التي قدمتها نظرية الإشارة في دراسة بعض القضايا الدلالية ذات الطبيعة المنطقية ولاسيما الترادف synonymy، والتضاد antonymy، والاندراج hyponymy، والعكس inversion، والانضواء inclusion، والتناقض، والحقول المعجمية lexical fields. وقد كان لما يعرف بعلاقات الإحالة وعلاقات الهُوية sense حظ كبير في توضيح تلك القضايا. ويقصد بعلاقة الإحالة العلاقة بين وحدة معجمية ما وما تحيل عليه من معنى في العالم الخارجي، كما يحيل لفظ رجل على ‘إنسان بالغ ذكر’. أما علاقة الهوية فهي علاقة الوحدة المعجمية بغيرها من الوحدات المعجمية التي تتضمنها اللغة، إذ أن هذه العلاقة مفيدة في تمييز المفاهيم بعضها من بعض، فكلمة رجل مثلا تعني ما ليس امرأة، ولا طفل ولا طفلة من البشر. وبذلك أعانت الوحدات المعجمية ‘امرأة’ و‘طفل’ و‘طفلة’، في تحديد مفهوم ‘رجل’، وقد قيل قديما "وبضدها تتميز الأشياء".
1، 7- الانتقادات الموجهة إلى نظرية الإشارة:
تحدد نظرية الإشارة المعنى بأنه المشار إليه أي الشيء أو المرجع الموجود في الخارج، وقد تعرضت هذه النظرة إلى المعنى إلى عدد من الانتقادات أهمها:
1- لو كان المعنى هو المشار إليه لكانت الألفاظ المختلفة التي تشير إلى لفظ واحد (كتلك التي تشير إلى آدم عليه السلام في المثال السابق) مترادفة في معانيها، ولكن الأمر ليس كذلك.
2- لو كان المعنى هو المشار إليه لكان كل ما ينطبق على المشار إليه انطبق على المعنى، فأكل التفاحة مثلا يعني أكل المعنى.
3- الألفاظ المجردة كالحب، والعدل، والحروف والأدوات كعن، وإنّ ولكن، ليس لها وجود خارجي تشير إليه، ومع ذلك لا أحد ينكر أن لها معاني.
4- أنه لا يمكن أن تتعدد المعاني بتعدد المراجع في العالم الخارجي؛ إذ لا يمكن أن يكون لنا من المعاني بقدر عدد التفاحات الموجودة في العالم.

 نظريات الدلالة: 2- النظرية السلوكية

- النظرية السلوكية

المدرسة السلوكية اللسانية هي امتداد للمدرسة السلوكية في علم النفس التي يتزعمها واطسن Watson ، ويعد بلومفيلد Bloomfield صاحب كتاب اللغة Language’ حلقة الوصل بين المدرستين حيث اشتهر بنقل أفكار السلوكيين إلى مجال اللغة وتطبيقها على الدراسات اللغوية.
وقد عرف عن السلوكيين نقدهم الشديد للعقلانيين، وتقليلهم من شأن كل الدراسات التي لا تقتصر في منهجها على السلوك الخارجي، وترى أن كل المحاولات التي تصف أو تفسر ما يجري في دماغ الإنسان أو في عقله إنما هي تكهنات تنقصها الموضوعية. ولذلك فلا مكان لما يعرف في نظرية الإشارة بالصورة الذهنية أو نحوها مما لا يمكن دراستها دراسة علمية موضوعية.
وتقوم النظرية السلوكية على مفهومي المثير stimulus والاستجابة response المعروفين في علم النفس السلوكي، ويطلق المثير (أو مثير المتكلم The Speaker’s Stimulusكما يسمى في اللسانيات) على الأحداث التي تسبق الكلام، وتكون سببا في كلام المتكلم، أما الأحداث التي تلي الكلام، فتدعى استجابة السامع The Hearer Response. وهكذا يتكون الموقف الكلامي من الآتي:
(أ‌) الأحداث العملية السابقة لعملية الكلام
(ب‌) الكلام
(ت‌) الأحداث العملية التالية للكلام.[1]
ولتوضيح ذلك آثر بلومفيلد أن يذكر المثال الآتي:
لنتخيل
(أ‌) أن جاك وجيل يتجولان في ممر مسيّج، وجيل جائعة، فترى تفاحة على الشجرة [المثير]
(ب‌) فتحدث أصواتا بحنجرتها ولسانها وشفتيها
[الكلام]
(ت‌) فيتخطى جاك السياج ويتسلق الشجرة، ويقطف التفاحة ثم يحضرها لجيل، ويناولها إياها، فتأكلها.[2]
[الاستجابة]
وقد يستمر الحديث بينهما على نحو يصبح في كل كلام مثير لاستجابة كلامية أخرى. وبذلك يصبح اللفظ أو المبنى اللغوي linguistic form كما يحلو لبلومفيلد أن يسميه شاملا لـ "الموقف الذي ينطق فيه المتكلم ذلك المبنى، والاستجابة التي يحدثها في السامع"[3]، ويعود سبب استخدامه لمصطلح المبنى بدلا من المعنى أو الكلمة إلى اعتبارات منهجية تقوم عليها النظرية السلوكية أساسا، وتتلخص في استبعاد المعنى من الدراسات اللغوية للأسباب الآتية:
(1) صعوبة التعامل مع المعنى، لأن ذلك يحتاج إلى الإلمام بكل شيء في عالم المتكلم، وهو مالا يمكن الإحاطة به.
(2) اختلاف المعاني من لغة إلى أخرى، وعلى سبيل المثال فإن الحوت في الألمانية يسمى سمكا، والخفاش يسمى فأرا.
(3) اختلاف شخصيات المتكلمين والتاريخ الثقافي لكل منهم، وخبراتهم الشخصية، الأمر الذي يصبغ المعنى بطابع شخصي ويجعل من الصعب التنبؤ بما يقوله كل متكلم.
(4) أن التعامل مع المعنى يحتاج إلى الاستبطان introspection أي التحقق بالنظر في داخل عقل الإنسان، وهو في رأي السلوكيين منهج غير موضوعي.

2، 2، 1- الانتقادات الموجهة للنظرية

دأبت المدرسة السلوكية كما رأينا- على استبعاد المعنى عن الدراسات اللغوية، ولم يكن هذا حلا علميا لمشكلة التعامل مع المعنى، ولذا فقد جلب عليهم ذلك حملة نقدية من العقلانيين وغيرهم من أنصار التعامل مع المعنى، ومن الانتقادات التي وجهت إلى السلوكيين:
(1) يرى ناعوم تشومسكي Noam Chomsky وهو من أشد المعترضين على السلوكيين- أن عدم الاهتمام بالأنظمة العميقة المفسرة للسلوك إنما هو "تعبير عن الافتقار إلى الاهتمام بالتنظير والتفسير".[4] ويرى أن التمسك بالموضوعية ليس غاية في حد ذاتها، فما جدوى التعلق بها إذا لم نظفر إلا بالقليل من التبصر والفهم.[5]
(2) يذكر جون لاينز أنه "ليس هناك ارتباط بين الكلمات والمواقف المستخدمة فيها إلى الحد الذي يمكن معه التنبؤ بحدوث كلمات معينة نتيجة لسلوك تحكمه العادة وقابل للتنبؤ به من خلال المواقف نفسها"[6]، ويرى أن ذكر العصفور مثلا لا يرتبط بالموقف الذي نرى فيه عصفورا.


[1] Bloomfield, p. 23.
[2] Bloomfield, p. 22.
[3] Bloomfield, p. 139.
[4] Chomsky, Aspects, p.193, Note (1).
[5] Chomsky, Aspects, p.20.
[6] Lyons, (1981: 5-6)

النظريات السياقية
يرى أصحاب النظريات السياقية أن الطريق إلى المعنى ليس رؤية المشار إليه أو وصفه أو تعريفه وإنما من خلال السياق اللغوي الذي وردت فيه، والموقف الحاليّ الذي استعملت فيه؛ وعليه فدراسة المعنى تتطلب تحليلا للسياقات اللغوية وغير اللغوية. والسياق هو البيئة اللغوية أو غير اللغوية التي تحيط بالخطاب وتكشف معناه. وأهم السياقات:

(أ) السياق اللغوي
 هو البيئة اللغوية التي تحيط بجزيئات الكلام من مفردات وجمل وخطاب. ويمكن تمييز عناصر السياق اللغوية التالية:
(1) التركيب الصوتي: وهو السياق الفونيمي الذي يشكل الكلمة، فمثلا: "نام الولد،" من الناحية الفونيميه لها سياق فونيمي يشارك في تحديد معنى مفرداتها.
فنام: سياقها الفونيمي هو تأليفها من الفونيمات: ن ا م مرتبة بهذه الطريقة؛ ومتى تغيّر أحد هذه الفونيمات أو اختلف ترتيبها تبع ذلك تغيير في المعنى، قارن:
عند استبدال الصوت ن في وسط نام نحصل على:
دام: (اختلفت عن نام بصوت د).  قام: (اختلفت عن نام بصوت ق).
وعند استبدال الصوت م نحصل على:
ناب: (اختلفت عن نام بصوت ب). ناح: (اختلفت عن نام بصوت ح).
ولفظ الولد عندما نستبدل صوت (و) فيه يتغير الفظه ويتغير معناه ونحصل على:
البلد: (اختلفت عن الولد بصوت ب)، الخَلد: (اختلفت عن الولد بصوت خ).
التركيب الصرفي:
يتمثل في تركيب الصيغة الصرفية واختلافها عن الصيغ الصرفية الأخرى، ويتبع هذا الاختلاف اختلاف دلالتها:
فلفظ الولد هنا: اسم مفرد مذكر مرفوع، تختلف عن كلمات أخرى لأسباب صرفية. فهي تختلف عن:
الوَلدان: لأنها اسم مثنى مرفوع.
الأولادِِ لأنها صيغة جمع تكسير مجرور.
ولدَتْ لأنها صيغة فعل ماض اتصل به (ت) التأنيث.
ولَدْنَ لأنها صيغة فعل ماض اتصل به (ن) النسوة.
تَوَالد لأنها صيغة فعل مزيدة تفيد حصول بالتدريج.
الوالِد لأنها هذه صيغة اسم فاعل.
المولود لأنها صيغة اسم مفعول.
وِِلادة لأنّها صيغة مصدر.
(3) التركيب النحوي: ويمكن النظر إلى دلالاته من حيث:
دلالات نحوية عامة، وهي المعاني العامة المستفادة من الجمل والأساليب، مثل دلالة الجملة على:
الخبر: محمد مسافر.
النفي: لم يسافر محمد.
التأكيد: إنّ محمدا لكريم.
الاستفهام: متى تسافر
النهي: لا تودي بنفسك إلى التهلكة.
الأمر: ذاكر دروسك.
دلالات نحوية خاصة، كدلالة تركيب الجملة على معان نحوية مثل:
الفاعلية: نام الولد
المفعولية: نوّمتُ الولد
الحالية: رأيت الولد نائما
الابتداء: الولد نائم
التمييز: حسُن علي ولدا.
معاني تركيب النحو، فلكل تركيب معنى نظمي يختلف عن التراكيب الأخرى، وقد بيّن ارتباط المعاني بمعاني النحو (المعنى النظمي) عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز.
(اشتعل الرأس شيبا)   يفيد الشمول. ”اشتعل شيب الرأس“ يفيد ظهور الشيب فقط
ما ضربت زيدا. (نفى ضرب زيد ولم يتعرض لذكر شيء آخر فلا ندري هل ضرب غيره أم لا).
ما زيدا ضربت. (نفى ضرب زيد ولكن يفهم من كلامه أنه ضرب غيره)
(4) النظام المعجمي: وهو يتمثّل في مفردات المعجم وطبيعة نظام حقوله الدلالية.
- نام أبوك:
- (نام): تختلف عن صحا، واستيقظ، ونهض، وجلس، ونعس.
- أبو: يختلف عن الجد من ناحية الجيل، وعن العم من ناحية القرابة المباشرة من جهة الأب، وعن الأم من حيث الجنس، وعن البنت من ناحية الجنس والجيل، وعن الحفيد من حيث الجيل.

(5) المصاحبة وتتمثل في ما يصاحب الكلمة من كلمات تؤثر في معناها وتحدده، فمثلا كلمة (يد) يختلف معناها في التعبيرات التالية لاختلاف المفردات المصاحبة لها:
له عليّ أيادٍ بيضاء "نعم”، يدُ القوس ”أعلاها"
يَدُ الرَّحَى: " العُود الذي يَقْبِض علـيه الطَّاحِنُ"
يد الريح ”سلطانها”،  يدُ الدَّهْر: "مَدُّ زمانه.”

أنف القوم "كبيرهم وسيدهم"
أنف الجبل "الجزء المتقدم من الجبل”،   أنف الدهر "أوله"
أنف النهار "أوله”،  أنف الخيل "مقدمتها”.
(6) الأسلوب مثل: ويتمثل في الأسلوب البلاغي الذي أُلف فيه الخطاب:
عمرو لا يضع عصا الترحال. (كثير السفر)
زيد كثير الرماد. (كريم)
عمرو يقدم رجلا ويؤخر أخرى (متردد)
ضحك الشيب برأسه فبكى (انتشر)
(أخرجكم من الظلمات إلى النور) (أخرجكم من الكفر إلى الإسلام).
(ب) سياق الموقف أو سياق الحال:
يقول رشيد بلحبيب "ينبغي التأكيد في البداية على أن الوحدات الكلامية للغة الطبيعية ليست مجرد سلسلة من الكلمات، فهناك مكون لا كلامي يُفرض دائما بالضرورة فوق المكون الكلامي في كل وحدة كلامية محكية."
وينقل عن وينقل عن السعران تعليل ذلك "لأن المعنى القاموسي أو المعنى المعجمي ليس كل شيء في إدراك معنى الكلام فثمة عناصر غير لغوية ذات دخل كبير في تحديد المعنى، بل هي جزء من معنى الكلام وذلك كشخصية المتكلم وشخصية المخاطب وما بينهما من علاقات وما يحيط بالكلام من ملابسات وظروف ذات صلة به،"
ويقول مالينوسكي عن أهمية سياق الموقف قائلا:
"إن الاعتقاد بأن المعنى محصور في الكلام مفهوم خاطئ؛ لأن الكلام والسياق عنصران متلازمان يكمل بعضهم بعضا ولا انفصام بينهما."
عناصر سياق الموقف:
1- الكلام الفعلي: أي الذي دار خلال الموقف.
2- طبيعة المتحدثين (يعني من هم هؤلاء المتحدثون الذين دار بينهم الحديث ومعرفة كل واحد منهم؛ هل هو مسئول يحدث أحد موظفيه، أم أب يكلم ابنه)
3- طبيعة الأشياء المتحدث عنها (يعني الكلام يدور عن ماذا؟ مثل:
”هل أحضرت الورقة؟“ فيقول: الوقت ”غير مناسب“. ويتغير المفهوم في ذهنك ولو عرفت المتكلمين وطبيعتهم وطبيعة الشيء لفهمت الكلام.
4- الأفعال المصاحبة للكلام: يجب أن ترى الشخص ، أو يوصف لك، كيف كان يتكلم؛ هل كان يبدو على ملامحه الغضب أو المرح أو الرضا أو الضجر أو المزاح. لابد أن ترى التعبيرات المصاحبة للكلام على وجه المتكلم.
5 - زمن الكلام: مثل:
عند الفجر في العصر عند العشاء في أي وقت كان وقت الكلام مثل:
جوابك لمن أراد أن يسكب لك ”عندي موعد الساعة السابعة ... إن القهوة تطرد النوم“ فإن قلت هذا ولم يبق بينك وبين هذا الموعد إلا ساعة فأنت تريد المزيد من القهوة، وإن قلت ذلك وبينك وبين موعدك سبع ساعات فيفهم من كلامك أنك لا تريد المزيد.
(ج) السياق الثقافي الاجتماعي:
وهو المجال أو الإطار الاجتماعي أو الثقافي الذي ينتمي إليه الكلام.
فجذر اختلفت معانيها لاختلاف المجال والسياق الثقافي الذي وردت فيه:
جذر: عند علماء النبات (جزء غائر في الأرض)
جذر: عند علماء الرياضيات.
جذر: تختلف عند علماء اللغة (الحروف الأصول للكلمة)
وكذلك اختلفت معاني زراعة تبعاً لاختلاف المجال الذي استعملت فيه:
- زراعة النبات    
- زراعة البكتيريا
- زراعة الأعضاء 
- زراعة الألغام
ولكي نحدد معنى الكلمة يجب:أن نحدد المجال الذي تنتمي إليه، قارن معاني (عملية) عملية: تختلف معانيها باختلاف المجالات التي وردت فيها:
- عملية تجاريه    
- عملية عسكريه
- عملية طبية      
- عملية حسابية


3- النظرية السياقية

- النظرية السياقية
ترتبط النظرية السياقية contextual theory باللساني البريطاني جون روبرت فيرث J. R. Firth (ت 1960)، وتقوم هذه النظرية على النظر إلى المعنى بوصفه "وظيفة في سياق"[1]. وقد أحدثت بذلك تغيرا جوهريا في النظر إلى المعنى من علاقة عقلية بين الحقائق والرموز الدالة عليها كما رسمها أوجدن وريتشاردز في مثلثهما الدلالي المشهور إلى "مركّب من العلاقات السياقية"[2] حسب عبارة فيرث.
وقد استخدم السياق في هذه النظرية بمفهوم واسع بحيث يشمل السياق الصوتي والصرفي والنحوي والمعجمي، ولا يظهر المعنى المقصود للمتكلم إلا بمراعاة الوظيفة الدلالية للألفاظ المستخدمة. وبناء على ذلك فقد فرّق فيرث بين خمسة وظائف أساسية مكونة للمعنى:
(1) الوظيفة الأصواتية phonetic function
(2) الوظيفة الصرفية morphological function
(3) الوظيفة المعجمية lexical function
(4) الوظيفة التركيبية syntactical function
(5) الوظيفة الدلالية semantic function[3]
وتتحدد كل وظيفة من هذه الوظائف في إطار منهج يعرف بمنهج الإبدال method of substitution، ولا يظهر معنى العنصر اللغوي على أي مستوى من المستويات الخمسة المذكورة إلا بتميزه السياقي من مقابلاته التي يمكن أن تقع موقعه في ذلك السياق، فإذا لم يكن ثمة بديل سياقي ممكن لذلك العنصر اللغوي فلن يكون له معنى. ويمكن أن نوضح ذلك بما يعرف بنماذج الإتباع في الدراسات التراثية العربية؛ حيث لا يكون للكلمة الثانية من كلمتي الإتباع معنى لأن وجودها مقصور على ذلك السياق؛ إذ ليس هناك بديل يمكن أن يحل محلها، فكلمة بسن في (1) مثلا ليس لها معنى، لعدم أدائها وظيفة سياقية، لأن الوظيفة تقتضي كونها بديلا ممكنا لغيرها من الكلمات، وهنا ليس لها بديل، ولذا فليس لها معنى.
(1) هذا حسن بسن.
أما في نحو (2) فإن كل عنصر من عناصرها له معنى لوجود بدائل سياقية ممكنة لها، فعلى المستوى المعجمي وقعت كلمة حضر بديلا فعليا لمقابلات أخرى محتملة مثل غاب، نجح، رسب إلخ، ووردت كلمة عشر بديلا لتسع وثمان وإحدى عشرة إلخ، وجاءت كلمة مدرسات بديلا مقصودا لنحو طالبات، موظفات إلخ. وعلى المستوى الصرفي فقد جيء لكلمة حضر بصيغة فَعَلَ بدلا من يفعل، افعل، فاعل، مفعول إلخ؛ للدلالة على الفعل الماضي، وجيء لمدرسات بصيغة فاعل بدلا من أي صيغة أخرى ممكنة للدلالة على اسم الفاعل، وجيء بـ (ات) بدلا من (ين) مثلا للدلالة على جمع المؤنث السالم.
(2) حضر عشر مدرسات.
وعندما تستخدم جملة ما بالفعل في مقام تخاطبي معين تتحقق وظيفتها الدلالية، وقد يغير ذلك المقام أو ما يسميه مالينوفسكي Malinowski بسياق الموقف context of situation المعنى الموضوع لها إلى معنى آخر، كأن يخرجها من معنى الخبر إلى الأمر أو الاستفهام.
وقد فرّق جفري إلز Jeffrey Ellis بين معاني السياقات الآنية instantial context أو الفعلية actual ومعاني السياقات الكامنة أو المحتملة potential. فمعاني السياقات الآنية هي المفهومة من مثال معين في مكان معين، في نص معين، في مقام معين. أما المعنى السياقي المحتمل فهو كل المعاني السياقية الممكنة للوحدة اللغوية عند تجريدها من النصوص التي تقع فيها،[4] وترتبط المعاني السياقية المجردة بالجملة، والمعاني السياقية المحتملة أو الكامنة بالقولة الكامنة، فإذا ما تحققت تلك السياقات في مقام تخاطبي معين فالناتج هو قولة فعلية.
ويقسم هاليدي Halliday العلاقات السياقية إلى علاقات داخلية تربط العناصر اللغوية بعضها ببعض، وعلاقات خارجية تربط العناصر اللغوية بما تدل عليه في الخارج، ويرى أن جميع الوحدات اللغوية تترابط إما في تقابلات مغلقة closed contrasts إذا كانت من العناصر القواعدية كما في التقابل بين صيغة الماضي والمضارع، أو في تقابلات مفتوحة open contrasts إذا كانت من العناصر المعجمية كما في التغاير بين مدرسات وطالبات مثلا.[5]

1- المصاحبة

نشأ عن تقليل النظرية السياقية من أهمية العلاقات الخارجية، أي علاقة العناصر اللغوية بما تحيل عليه أو تشير إليه في الخارج زيادة العناية بالعلاقات الداخلية، وقد تجسّدت هذه العناية تجسدا واضحا في ما سماه فيرث بالمصاحبة collocation، وهي "الترابط المعتاد لكلمة ما في لغة ما بكلمات أخرى معينة في جمل تلك اللغة"[6] وتبدو أهمية المصاحبة في كونها المحدد الأساسي لمعاني المفردات اللغوية؛ فبعض معاني كلمة شجاع مثلا يتحدد بمصاحبتها لكلمة رجل وبعض معاني كلمة رجل تتحدد بمصاحبتها لكلمة شجاع، وبذلك أصبح مصطلح تصاحبي collocational مرادفا كما يذكر لاينز- لمصطلح معجمي.[7] الذي ارتبط في أذهان الكثيرين بما تدل عليه الكلمة خارج اللغة.
2- سياق الموقف
يرى فيرث أن سياق الموقف مصطلح واسع لا يقتصر على السياقات اللغوية بل يشمل أيضا السياق الثقافي، وأقوال وأفعال المتخاطبين وغيرهم، وكل الأشياء المتصلة اتصالا وثيقا بالقولة المستعملة، وتأثبر الحدث اللغوي، وقد ذهب جيفري إلز إلى أن مفهوم سياق الموقف كان من أهم إسهامات فيرث في نظريته السياقية.[8]
ولئن كانت نظرية فيرث تعوّل معوالا كبيرا على التحققات السياقية المتوالية عبر المستويات اللغوية المختلفة ابتداء بالسياق الصوتي، ومرورا بالسياق الصرفي والنحوي والمعجمي، وانتهاء بالسياق الدلالي، فإن سياق الموقف هو العامل الأخير والحاسم في تحديد المعنى.
3- مزايا النظرية
لعل من أهم مزايا هذه النظرية موضوعيتها وعدم خروجها عن بنية اللغة والسياق الثقافي المحيط بها. وقد سنح منهجها السياق الطريق للمهتمين باللغة أن يوجهوا اهتمامهم إلى العناصر اللغوية نفسها والأنماط التي تنتظم فيها بدلا من صرف انتباههم إلى العلاقات النفسية بين اللغة والذهن أو اللغة والخارج، أو إلى العمليات النفسية لتي تحدث في الدماغ.
وكذا فإن العناية بالسياق تعني مراعاة سمة من أهم السمات المتأصلة في طبيعة اللغة وهي السمة التراكمية للعناصر اللغوية؛ إذ يتسنى للمهتمين باللغة من خلال رصد أهمية هذه السمة وتطبيقاتها أن يكتشف الدور الذي يؤديه تسلسل العناصر اللغوية وتفاعل بعضها مع بعض في عمليتي الفهم والإفهام الضرورتين في عملية التخاطب اللغوي.
ومن مزايا هذه النظرية أيضا تركيزها على الجوانب الوظيفية من اللغة، التي تعد الجوانب الأهم نظرا إلى أن الوظائف اللغوية هي التي ابتكرت من أجلها اللغة البشرية بوصفها أهم وسائل الإبلاغ على الإطلاق.
4- الانتقادات الموجهة للنظرية
إن تعويل هذه النظرية على السياق جعلها تجنح إلى المبالغة في دور السياق في صنع المعنى إلى الحد الذي أغفلت معه الوظيفة الإحالية والإشارية للمفردات والجمل اللغوية حين أسقطت من حسابها ما تحيل عليه الكلمات من صور ذهنية وما تشير إليه من حقائق خارجية على مستوى الكلمات، كما أنها تجاهلت النسبة الخارجية أو اشتراطات الصحة للجملة التي تبرز أهميتها في دراسة العلاقات بين المفردات المعجمية وكذلك بين الجمل اللغوية، وذلك مثل الترادف، والتضمين والعكس، والتضاد والتناقض، ونحوها.
وبدلا من أن تقصر هذه النظرية دور السياق على المهمة الترجيحية التي تبدو في تحديد الدلالة المقصودة وإقصاء الدلالات غير المقصودة، نراها تجعل من السياق المنبع الوحيد الذي تستقي منه العناصر اللغوية دلالاتها. فالكلمة مثلا ليست "كالماء الذي يخضع لونه للون إنائه، وإنما هي كالحرباء التي تتلوّن بلون المكان الذي تحل فيه، أي أن الكلمة أشبه بالحرباء تمتلك إمكانات معينة، كل منها يبرز في موضعه المناسب، وليست كالماء الذي لا يملك شيئا من تلك الإمكانات، وإنما يخضع لما يفرض عليه من الخارج".[9]


[1] C. E. Bazell, J. C. Catford, M. A. K. Halliday and R.H. Robins (eds), In Memory of J. R. Firth, (Longman, 1979), p.v.
[2] J. R. Firth, Papers in Linguistics, p.19.
[3] J. R. Firth, Papers in Linguistics, pp. 26-7.
[4] See: J. Ellis, “On Contextual Meaning”. In Bazell and Others (eds). In Memory of J. R. Firth, (Longman, 1979), p.81.
[5] See: M. A. K. Halliday, “Lexis as a Linguistic Level”. In Bazell and Others (eds). In Memory of J. R. Firth, (Longman, 1979), p. 160.
[6] R. H. Robins, General Linguistics: An Introductory Survey, 2nd ed, (London: Longman, 1978), p.63.
[7] J. Lyons, “Firth’s Theory of Meaning”. ”. In Bazell and Others (eds). In Memory of J. R. Firth, (Longman, 1979), p.295.
[8] Ellis (1979: 79.
[9] محمد محمد يونس علي، وصف اللغة العربية، دراسة حول المعنى وظلال المعنى (طرابلس: منشورات جامعة الفاتح، 1993) ص 105-6.

http://syangar.bodo.blogspot.co.cc